الغد
ردًّا على عملية «طوفان الأقصى» المباغتة، شنّت إسرائيل حرب إبادةٍ تجاوزت هدف النصر العسكري إلى محاولة استعادة فكرة الردع بالجدار الحديدي، وهو ردع يقوم على استخدام البطش المفرط لزرع شعورٍ بعدم جدوى المقاومة في روع الفلسطيني من جهة، ولطمأنة المستوطنين بأنها ما تزال ملاذًا آمنًا من جهة أخرى. وأمام عجزها عن تحقيق نتائج حاسمة في وقتٍ قصير كما أعلنت في بداية الحرب، تهاوت صورة «إسرائيل التي لا تُقاوَم»، وتآكل رصيدها الأخلاقي والدبلوماسي على الساحة الدولية.
وفي خضمّ ذلك، أكّدت التقارير الأممية أن معظم الضحايا من المدنيين، فانقلب المزاج الدولي على نحوٍ غير مسبوق. ففي الولايات المتحدة، أظهرت استطلاعات الرأي تراجع التأييد الشعبي لإسرائيل، خصوصًا بين الشباب وأنصار الحزب الديمقراطي، بل وحتى بين الجمهوريين. وعلى الصعيد الدبلوماسي، تقلّص عدد الدول التي تمنح إسرائيل دعمًا علنيًا في الأمم المتحدة، وتزايد الاعتراف بدولة فلسطين، في تحوّلٍ ملموسٍ أضعف الغطاء الأخلاقي والسياسي، بل وحتى اللاهوتي، الذي طالما وفّرته واشنطن والعواصم الغربية لتبرير سلوك إسرائيل.
هذا التحوّل الجيوسياسي لم يكن معزولًا عن تبدّلٍ أوسع في موازين القوى العالمية؛ إذ وجدت الولايات المتحدة نفسها، المنخرطة في نزاعها مع الصين وروسيا، أن انحيازها التام إلى إسرائيل يرهق مصالحها الإقليمية ويستنزف ما تبقّى من مصداقيتها. وفي المقابل، شرعت دول عربية كبرى في التوجّه شرقًا بحثًا عن توازنٍ جديدٍ يقلّل كلفة الارتهان ويمنحها هامشًا أوسع للمناورة ضمن نظام دوليّ متغيّر.
من هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى «الطوفان الثاني» كمشروعٍ سياسي يقوم على أساس الوحدة الفلسطينية؛ فالمقاومة، مهما بلغ تأثيرها، لن تحقق أهدافها التاريخية دون إطارٍ سياسي موحّد يُعيد بناء القرار الوطني على أسس الشراكة الحقيقية. إن استمرار الانقسام بين غزة والضفة يشكّل وصمة عارٍ وطنية لا يمكن تبريرها بالخلافات الفصائلية، ويهدّد جوهر القضية الفلسطينية ويحول دون ترجمة الإنجازات النضالية إلى مكاسب سياسية تحفظ بعدها السياسي والتاريخي.
واستكمالًا لهذا المشروع، وبعد أن أعدمت إسرائيل خيار الدولتين وسعت إلى تصفية القضية الفلسطينية وتحويلها إلى ملفٍّ إنسانيٍّ من سكانٍ ومساعدات، فقد آن الأوان لطرح خيار الدولة الواحدة الديمقراطية المدنية، رؤيةً تقلب الطاولة على المشروع الصهيوني. فإما أن تعود إسرائيل إلى خيار الدولتين، وإلا فإن خيار الدولة الواحدة سيغدو البديل الحتمي الذي يقوّض مشروعها القائم على التفوّق العرقي والديني، ويكشف تناقضاته الأخلاقية والسياسية.
إن طرح الدولة الواحدة لا يتجاهل الواقع القائم، بل يعيد صياغته بمنطق حق الشعوب في تقرير مصيرها، متمثّلًا في دولةٍ على كامل الأرض الفلسطينية تقوم على المساواة وتكافؤ الحقوق بين جميع سكانها، الذين يشكّل الفلسطينيون أغلبيتهم اليوم — ومن المرجّح أن يشكّلوها في المستقبل.
ومن هذا المنطلق، يمكن أن يتبلور المشروع الفلسطيني بوصفه نواة مشروعٍ عربيٍّ جديدٍ يعيد صياغة مفهوم الدولة العربية الوطنية بطريقةٍ تنهي إرث اتفاقية سايكس–بيكو وما خلّفته من تجزئةٍ وتبعيةٍ مزمنة، ويؤسس لسيادةٍ حقيقيةٍ تقوم على المشاركة والتكامل في المصالح والقرار.
قد يبدو الحديث عن هذا «الطوفان الثاني» أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع السياسي، غير أن غياب مبادرةٍ عربيةٍ جادّةٍ تقلب الموازين في مواجهة المشروع الصهيوني، سيبقي الجميع — من يظن نفسه آمنًا ومن يقف في مرمى الخطر — عرضةً للهلاك وتآكل السيادة والقرار المستقل.
وعسى أن يتحوّل هذا الطوفان الثاني إلى مشروع وعيٍ وبناءٍ عربيٍّ مشترك، يجعل من فلسطين بؤرة التحوّل العربي، ومن المأساة منطلقًا لتاريخٍ جديدٍ تصوغه الإرادة لا الصدفة.
وغدًا لصانعه قريب، جنابك.