"الزر والعروة".. محطات تأملية يسطرها الشاعر راشد عيسى
الغد-عزيزة علي
في مجموعة "الزر والعروة"، ينحاز الشاعر والناقد الدكتور راشد عيسى إلى الكتابة القصصية القصيرة جدا، حيث التكثيف هو اللغة، والرمز هو الوسيلة، والتأويل هو الدعوة المفتوحة للقارئ.
يمزج عيسى بين الشعر والسرد في مقاطع نثرية تنبض بالتوتر الداخلي والعمق الإنساني، وتتوزع على فضاءات تحمل عناوين لافتة ومحملة بالدلالات، مثل: نزوات الروح وغزوات الجسد، أكاذيب صادقة، حشرات محترمة، وغيرها.
من "همسة أولى" تفتتح بها المجموعة، يُدخلنا عيسى إلى عالمه المجازي بلغة مدهشة، حيث تتحول النملة إلى "ساردة"، والنحلة إلى "شاعرة"، وتبقى "عين الباشق" محلقة فوق الجميع، ترصد وتلاحق المعنى المتفلت. هكذا يبني الكاتب عالما يتكئ على اليومي والتاريخي، الواقعي والغرائبي، ويعكس في كل قصة شظية من تجربة الإنسان المعاصر، الممزق بين الرغبة والواجب، بين البساطة والرمزية، بين الحضور والغياب.
"الزر والعروة"، التي صدرت عن "الآن ناشرون وموزعون". ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي تجربة فنية متكاملة تستنطق الموجودات، وتحاور الأزمنة، وتفتح أبوابا متعددة للمعنى، تاركة للقارئ أن يكون شريكا لا متلقيا فقط.
تقدم المجموعة نصوصا تستفز التأمل، وتفتح المجال أمام المتلقي ليكون شريكا في تأويل المعنى، عبر لغة رمزية مكثفة وشخصيات تمزج بين الواقعي والأسطوري في سياقات معاصرة.
تضم المجموعة العديد من الموضوعات التي تلامس النفس البشرية وأفكارها، كاشفة عن عمق في الطرح ينبني على التناقضات التي يعيشها الإنسان بين ما يرغب به في الباطن وما يمارسه في العلن. وتتناول موضوعات مثل الحب، والارتباط، والأمومة، ومرور الزمن، والتأمل في تبدل الأحوال.
يفتتح عيسى مجموعته "الزر والعروة" بـ"همسة أولى"، يستهلها بتشبيه طريف وعميق المعنى، يقول فيه: "النملة ساردة، والنحلة شاعرة.
للنملةِ قريتها الشعبية الواقعية، وللنحلة مملكتها الأرستقراطية الفاخرة.
في هذه المجموعة القصصية، تعاون سراني بين فم النملة وفم النحلة. غير أن عين الباشق تتعالى عليهما لتأخذ النص في جولة سياحية داخل حديقة المعنى الرواغ."
بهذا المدخل الرمزي، يرسم عيسى ملامح عالمه السردي الذي يمزج الواقعي بالمجازي، ويدخل القارئ في لعبة لغوية وفكرية، حيث تتشارك التفاصيل اليومية مع الرؤى الشعرية، بينما تظل "عين الباشق" — كناية عن الرؤية الكاشفة — تحلق فوق النص لتفتش عن جوهره العميق، لا عن سطحه الظاهر. في هذه المجموعة القصصية تعاون سراني بين فم النملة وفم النحلة.
تتكون المجموعة من عشرة فضاءات قصصية، هي: "نزوات الروح، غزوات الجسد، ضديات، أسئلة فاشلة لإجابات ناجحة، فانتازيا، لدائد الحرمان، أكاذيب صادقة، تدوير الناس، حب وحروب، حشرات محترمة، أخلاق نباتية".
ومن الفضاء الأول، الذي يحمل عنوان "نزوات الروح وغزوات الجسد"، قصة "حمامة أرملة"، تبرز صورة قصصية ذات دلالة رمزية مدهشة، حيث يقول السارد: "ربطة عنق وحقيبة نسوية تتبادلان العناق الحار على شرفة صغيرة يتساقط عليها مطر ناعم خجول، فيما حمامة أرملة تطيل النظر إليهما وتحك منقارها بغصن جاف".
في هذا المشهد، تتجلى مفارقة بصرية ومجازية تطرح تساؤلات حول المعنى الكامن في أبسط التفاصيل: جمادات تتحول إلى كائنات نابضة بالعاطفة، وحمامة أرملة تراقب بعين مشبعة بالحيرة أو ربما بالحنين، في تفاعل صامت مع رموز الحياة والعزلة والغياب.
وتندرج تحت كل فضاء منها مجموعة من القصص التي تنوعت في الطول؛ فمنها القصير جدا الذي لا يتجاوز ربع صفحة، ومنها الأطول الذي يصل إلى حدود صفحة واحدة.
اتسمت القصص القصيرة بالتكثيف والرمزية وفتح باب التأويل للقارئ لاستشفاف المعنى الكامن وراء جدلية الأحداث والشخصيات والزمن والحبكة. ومن ذلك قصة "هل تُحبّينَني؟؟"، حيث يقول السارد: "حاولت عبر ثلاث سنوات أن أؤكد لها حبي بطرق مختلفة، فكانت ترد علي بأنها تصدق ذلك وتفرح به. لكنها لا تبادر بأي إيماءة حب. أمس انتابتني موجة كبرياء عالية. فسألتها لأتخذ قراري الحاسم: هل تحبينني؟
ابتسمت بشفتها السفلى فقط، وقالت: سأحبك عندما تحتاج السمكة لأن تتعلم السباحة.
قلت لها: حسنا، لك ذلك..
قلت لقلبي: لن أتدخل بشؤونك.. لكن تذكر أن الزنبقة التي تعيش في الماء تحتقر المطر!
قلت لقلبي: لن أتدخل بشؤونك.. لكن تذكر أن الزنبقة التي تعيش في الماء تحتقر المطر!!".
وبُنيت بعض القصص على الحوارات العميقة التي تتلاعب بالمعنى وتعتمد على المفاجأة في السؤال والجواب، كما في قصة "شتيمة:
"التبس عليها الأمر وأنا أمشي بين أصحابي، فشتمتني شتيمة لو سمعها الزجاج لتكسّر.
بلعتُ ريقي. بلعتُني. قلت لها بهدوء فراشة وقفت على زهرة:
– حقًا، أنا أستحقّ شتيمتك لأنني لا أُحسن الإساءة لمن يُسيء إليّ.
ردّت بغرور: – من لا يُحسن الشتْم لا يُحسن الأدب.
انعقد لساني. تجاسرت وقلت: – ليتني تلميذ في مدرسة شجاعتك...
تدانت مني وجهًا لوجه، وقالت وهي تَمَيَّزُ من الغيظ:
– شتمتُك لأنك تجاهلتني. أنت الوحيد الذي أسمح له أن يُعجب بي ويغازلني.
تضاعف انعقاد لساني. تلاشيْتُ، وها أنا أفتّش عني كي لا أجدني".
تنوعت شخصيات القصص بين الواقعية والتاريخية، حيث استدعاها عيسى ضمن سياقات عصرية لإبراز دلالات وجودية عميقة. ومن ذلك أن يحتفل أبطال قصص الحب بعيد الفالنتاين، فيظهر روميو وجولييت، وامرؤ القيس وليلى. وفي مشهد آخر، يلتقي امرؤ القيس بفتاة بدوية تمنحه شربة ماء، ثم تخسره حين تظنّ به سوء الأدب:
"غفا امرؤ القيس بعد تعب شديد، دفن رأسه في الوسادة المحشوّة بريش النعام، وسمع صوتَه المكتوم وهو ينادي على شابة بدوية راكبة فوق جمل في الصحراء ساعة القيظ:
– شَربة ماء. شربة ماء.
أوقفت الشابة جملها، ورمت إليه كيسًا جلديًّا فيه ماء، فشرب. وحين أعاد لها الكيس، قال:
– لك الشكران يا بنت الأكارم.
لاحظت من هيئته أنه مُهندم مُنعَّم، فقالت:
– ما الذي رمى بك في هذا القيظ أيها الغريب؟ إن شئتَ أخذتُك معي إلى مكان أنيس تتدبر فيه أمرك.
شكرها ووافق. أردفَته خلفها بعد أن أناخت البعير بصعوبة. وما إن نهض البعير، حتى كاد امرؤ القيس يقع، فأحاط جذعها بذراعيه بتلقائية بريئة.
أسرع الجمل في المشي. أدارت وجهها نحوه وزجرته:
– تأدّب أيها الغريب!
تضاعفت سرعة الجمل حتى تساقط امرؤ القيس عن ظهره، وتطاير ريش النعام من الوسادة".
تأتي هذه المجموعة القصصية كمحطات تأملية يخوضها الكاتب والشاعر راشد عيسى في تجارب الحياة، ولا سيما تلك المتعلقة بالعلاقات الإنسانية على اختلافها. وهو تأمل عميق جاء بلغة رمزية، وأحداث غير مباشرة، وعبارات حمالة للوجوه، تدفع القارئ للتأمل والتفكر والتفاعل، كل حسب تجربته وخبرته.