الغد
يقول المفكر والكاتب والصحفي اليهودي الإسرائيلي المعروف ديفيد ليفي: « إنه لا يوجد في العالم الكثير من المجموعات السكانية العاجزة مثل الفلسطينيين الذين يعيشون في بلادهم. لا يوجد أي أحد يدافع عن حياتهم وعن ممتلكاتهم وعن كرامتهم. حتى لا يوجد أي أحد ينوي فعل ذلك. هؤلاء الناس تركوا لمصيرهم. ممتلكاتهم أيضاً مباحة. مسموح إحراق بيوتهم وحقولهم. وبالطبع إطلاق النار عليهم بدون أي رحمة وقتل الشيوخ والأطفال منهم. لا توجد أي قوة للحماية إلى جانبهم ولا شرطة ولا جيش ولا أي جهة.. نشاطاتهم تعتبر إرهاباً ومصيرهم معلوم: إما التصفية أو الاعتقال. (هارتس في 26/6/2023 والغد في 27/6/2023).
حقاً إنها كارثة سياسية باللفظ والمعنى وأمام العيون أن يفقد شعب أرضه ووطنه، وان يشرد فيه وفي الآفاق على يد لاجئين بائسين في الأصل، قدموا إلى دياره من وراء البحار. حقاً إنه لا مثيل لكارثته سوى كارثة الهنود الحمر في العصر السابق.
لا أريد في هذا المقال قراءة سورة يوسف على يعقوب، فالقارئ يعرف مجريات الكارثة من الألف إلى الياء، وإنما أريد أن أتكلم عن الفصل الأخير فيها.
في مرحلة الذهاب إلى المقاومة بعد هزيمة 1948 كان هدف المقاومة تحرير كل فلسطين، وبعد فترة قصيرة أي بعد هزيمة 1967 انخفض سقف المقاومة إلى استرجاع ما استولت عليه اسرائيل من فلسطين أي الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبعد تصفية منظمة التحرير في لبنان سنة 1982 وانسداد جميع الآفاق أمامها سوى مكتب لرئيسها عرفات في تونس، انخفض السقف إلى الحضيض. صارت غزة، وأريحا أولاً، لأنه لم يوجد لعرفات وصحبه في حينه مكان في العالم يقيمون فيه ويتحركون، فكانت أوسلو التي ادت إلى قيام السلطة الفلسطينية أو الحكم الذاتي تحت إشراف اسرائيل.
على إثر نشر إسرائيل محاضر النقاش الذي كان يجري داخل الحكومة الإسرائيلية إبان محادثات أوسلو بعد مرور ثلاثين سنة عليها، كتب المفكر والصحفي الاسرائيلي السابق ذكره المدافع الدائم عن كرامة الفلسطينيين (هارتس في 3/9/2023 والغد في 4/9/2023) مقالاً جاء فيه : «يروي محضر النقاش كل الحكاية من التلكؤ ورؤية السواد والازدراء والاشمئزاز شبه الجسدي من الفلسطينيين وممن يقفون على رأسهم (يعني عرفات وصحبه)، الشعور بأن إسرائيل «تعطي ولا تأخذ». عدم الرغبة في العدالة المتأخرة. عدم تحمل المسؤولية عن جرائم 1948 أو جرائم 1967 ... تجاهل القانون الدولي. الانشغال القسري بالأمن، بالطبع الخاص بالإسرائيليين. التعامل مع «إرهاب الفلسطينيين» فقط ، وليس مع إرهاب إسرائيل. الذروة كانت في تنفس الصعداء لبيرس في اللقاء: الفلسطينيون وافقوا على أن يبقى المستوطنون في أماكنهم.. هذا بالضبط زمن أوسلو...» وأضاف ليفي: «إذا كان رابين وبيرس لم يقترحا تجميد المستوطنات فهذه إشارة إلى أنهما لم ينويا للحظة السماح بإقامة الدولة الفلسطينية».
كان عرفات وقد أوشكت فترة السنوات العشر في تونس على الانتهاء مستميتاً على موطئ قدم له في فلسطين، معتقداً أنه وقد عاد إليها سيقلب بالفهلوة الطاولة على رأس إسرائيل وسيجبرها على الموافقة على قيام الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة وعاصمتها القدس. أما بقية فلسطين (1948) فقد كانت أول ما تنازلت أوسلو عنه باعترافها منذ اللحظة الأولى بشرعية إسرائيل.
وبما أن تنفيذ بنود اتفاقات أوسلو كان يتم على مراحل، فقد كانت حماس تقوم عند بداية كل مرحلة بتفجير يعطلها لتحل محل السلطة وأخيراً بالانقلاب الذي قامت فيه في قطاع غزة ضدها. وهكذا انتهت - أوسلو لا حسب ما كان يريد عرفات أو يتمنى- بل حسب ما تريده حماس والجهاد فيما بعد ويتمنيان.
في جريدة يديعوت أحرونوت (هارتس في 3/9/2023 وفي الغد في 4/9/2023) يُعدد الصحفي الإسرائيلي سيفر بلوتسكر الفوائد التي جنتها اسرائيل بعد ثلاثين سنة من أوسلو، وألخصها كالتالي:
1. ارتفع عدد الدول التي اعترفت باسرائيل على إثر توقيعها عام 1993 من 115 دولة في عام 1993 إلى 166 دولة اليوم.
2. اعتراف 88 % من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باسرائيل اليوم مقابل 60 % قبل أوسلو.
3. ارتفاع عدد المستوطنين في الضفة الغربية من 115 ألفاً قبل اوسلو إلى 485 ألفاً بعدها (وإلى 750.000 ألفاً اليوم).
4. اختفاء مشكلة اللاجئين عملياً فهي لم تذكر في اتفاقات اوسلو.
5. وفي هذه الثلاثين سنة مات تقريباً كل لاجئي سنة 1948.
6. وأصبح ادعاء حق العودة شاة ميتة.
7. لم يطالب عرفات بتعريف السيطرة الإسرائيلية على «المناطق» كاحتلال، بل وافق على الاعتراف بالحكم العسكري كصاحب السيادة الوحيد عليها، حتى على المناطق التي نقلت إلى إدارة فلسطينية مدنية.
8. حظي الفلسطينيون بحكم ذاتي موسع، أي مع سلطة تنفيذية، وتشريعية، وقضائية، ولكن من دون سيادة، ومن دون حق تقرير مصير قومي، سياسي.
9. لا يظهر على الإطلاق الحل السلمي «دولتان للشعبين» في اتفاقات أوسلو، وبقي مفتوحاً للمفاوضات النهائية، التي فشلت فيما بعد.
10. لم تثبت السلطة الفلسطينية نفسها وكأنها كدولة على الاطلاق.
11. انخفضت إنفاقات دولة اسرائيل من 11 % من الناتج المحلي إلى 5 % منه بعد أوسلو.
12. ارتفع مستوى المعيشة الحقيقي للعائلة الإسرائيلية منذ سنة 1993 بمقدار 130 % كما تضاعف الدخل المحلي الحقيقي للفرد.
13. منعت أوسلو وصف إسرائيل في الغرب بدولة الابارثيد [ولكن هذا الوصف برز وأخذ يرسخ بعدها في الداخل والخارج].
14. أتاحت أوسلو لإسرائيل فرصة الازدهار والبقاء على طابعها الغربي والديمقراطي.
15. نعم، استمرت المقاومة الفلسطينية وكان يقتل بمعدل 55 يهودياً في السنة، أي ما يعادل 0.0008 من سكان اسرائيل.
16. من ناحية عملية وأحادية الجانب، كانت اوسلو انجازاً متواصلاً لإسرائيل، فقد نجحت ببراعتها التفاوضية والسياسية والاعلامية وبالضبابية والتشويش في إجهاض اوسلو».
ومع هذا وعلى الرغم منه فإن مجرد صمود السلطة وكيفما كان الأمر في وجه مضايقات اسرائيل التي لا تحصى عمل شجاع مما جعل بعض القوى الإسرائيلية تعتبرها أخطر ما يكون على إسرائيل. كما أن البيئة الإدارية التي أقامتها السلطة لخدمة الناس وحل مشكلاتهم اليومية في إطارها أفضل نوعياً من البنى الإدارية في كثير من البلدان العربية المستقلة.
والسؤال الثاني: ماذا خسرت فلسطين من تفجيرات حماس والجهاد وصواريخهما قبل طوفان الأقصى؟
1. وقف لم الشمل العائلي الذي كان قائماً ومستمراً، بعد أول عملية تفجيرية مما أبقى آلافاً مؤلفة من الأسر ممزقة ومحطمة.
2. استيلاء اسرائيل على آبار الغاز في غزة بعد انقلاب حماس على السلطة.
3. حصار محكم على غزة: براً وبحراً وجواً ومن جميع الجهات وفي جميع الأوقات.
4. مزيد من السجناء والمعتقلين والجرحى والقتلى والشهداء والأرامل والأيتام في غزة والضفة.
5. مزيد من المستوطنات والمستوطنين.
6. مزيد من الطرق الالتفافية والشوارع العريضة الخاصة بالمستوطنين التي تمثل انتزاعاً للأرض من مالكيها الفلسطينيين.
7. فصل أرض الضفة وراء الجدار عن مالكيها في الضفة، وانتزاعها تدريجياً بالإغلاق الطويل للبوابات، أو بالحاجة الى قطع عشرات الكيلو مترات للوصول إلى البوابة مع أن أرضهم قدام بيوتهم. وها هي إسرائيل تقيم بوابات للقرى والمدن جميعاً في الضفة.
8. تفشي الفقر والجوع والمرض في قطاع غزة.
9. تهويد القدس يتسارع.
10. تثبيت وصف حماس والجهاد «بالإرهاب» دولياً.
11. مزيد من الجواسيس والعملاء لإسرائيل.
12. مزيد من التأييد الدولي لإسرائيل التي تتعرض للقصف بآلاف الصواريخ التي كانت تدوش ولا تصيب من «دولة حماس والجهاد» في قطاع غزة.
13. قطع الصلة تماماً بين الضفة وغزة.
14. تدمير البنية التحتية والعمران في قطاع غزة في أثناء كل قصف.
15. إجبار إسرائيل على ابتكار أسلحة دفاعية وهجومية تدر عليها مئات الملايين من الدولارات.
16. تحويل الضفة وغزة إلى مختبرات إسرائيلية للتجارب الأمنية، واستخراج برامج منها تصدرها إسرائيل للدول المحتاجة إليها.
17. جمود الوضع السياسي للقضية بل وتدهورها حد الموت.
18. انعدام الثقة تماماً بين اليهود والفلسطينيين والتي بدونها لا يمكن بدء أي مفاوضات وتسويات.
19. إن القضية تموت عربياً بالتطبيع والتلميع والتوقيع مع اسرائيل، فمجمل الدول العربية لم تعد كما كانت عليه في مرحلة الذهاب ضد إسرائيل.
الأمر انقلب على القضية في مرحلة الاياب إليها بدءاً من اوسلو، مروراً بالإنقلاب في غزة، إن القضية تموت وإن التطبيع والتلميع والاعتراف والتوقيع من جانب جملة العرب أشبه بوضع الزهور الصناعية على قبرها.
20. لم يبق أحد يدافع عنها بقوة وشراسة سوى القليل، ومنهم حفنة من اليهود الشرفاء في اسرائيل والخارج. لقد ألِف العرب اسرائيل وزهقوا فلسطين والفلسطينيين وقضيتهم ويريدون إغلاق بابها.
ولكن القضية كالمسيح له المجد او كطائر الفنيق، سوف تخرج حية من القبر، أو من الرماد مهما طال الزمان، وستتكرر حكاية البيض في جنوب افريقيا في فلسطين في إطار دولة ديمقراطية واحدة، فنحو سبعة ملايين فلسطيني يعيشون في أحشاء اسرائيل، والقلق الوجودي (الديموغرافي) في فلسطين الذي لا يمكن القضاء عليه يهيمن على كل إسرائيلي وعلى كل صهيوني ما داما يريان فلسطينياً واحداً يتنفس فيها.