الغد
يجسد الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط الحالة المثالية لفكرة الوجود بالقوة الغاشمة. وقد تجلى هذا المفهوم في نشأته، وتاريخه، وتطلعاته العدوانية المعتمدة بشكل أساسي على القوة العسكرية والعنف الممنهج لتحقيق أهدافه وتثبيت كيانه.
نشأ الكيان الصهيوني وتأسس على مبدأ استعماري/ استيطاني يسعى إلى احتلال الأرض بالقوة واستبدال المستوطنين العدوانيين الذين جيء بهم تحت مظلة الصهيونية بأصحابها الفلسطينيين، وبالتعاون مع القوى الاستعمارية في بداية القرن العشرين. وانتظم هؤلاء القادمون في عصابات إرهابية قامت بارتكاب المجازر وتدمير القرى والبلدات، واعتمدت مبدأ الإبادة الجماعية والتطهير العرقي لتهجير مئات الآلاف من أصحاب الأرض، وصولا إلى إخراج كيان إلى الوجود على أساس إخراج شعب أصيل كامل من الوجود.
اعتمد الكيان الاستعماري في كل مراحله على دعم عسكري ودبلوماسي هائل من قوى استعمارية كبرى مثل بريطانيا في البداية، ثم الولايات المتحدة وحلفائها. وقد عزز الدعم قدرة الكيان على فرض وجوده بالقوة، وسمح له بالهيمنة العسكرية وإيقاع الكثير من الأذى البالغ بكل المنطقة، ونزع استقرارها واستنفارها على مدى عقود.
وحتى بالنسبة للذين تجاهلوا النكبة الفلسطينية في العام 1948 التي ما تزال مستمرة، وروجوا لـ"حل" شرعنة الاستعمار الصهيوني إلى الأبد في أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية، استخدم الكيان قوته العسكرية لقمع الفلسطينيين وفرض وجوده كأمر واقع. وعزز هذا الوجود بممارسات منهجية تشمل بناء المستوطنات غير الشرعية وتوسيعها، وهدم المنازل، وحصار غزة وقصفها المتكرر، وسياسات الإذلال والاعتقال والقتل ومصادرة الممتلكات وهجمات المستوطنين وتقييد الحركة. كل ذلك مدعوم بتقنيات متقدمة لإدامة المراقبة والسيطرة.
إذا كان ثمة مَن ما يزال يتبنى خطاب تطبيع الكيان الصهيوني الغاشم كأساس لسلام المنطقة واستقرارها، فإن مستوى الإجرام والعدوان غير المسبوق الذي يمارسه الكيان منذ أكثر من عام لا يترك أي مجال للدفاع عن هذه الفكرة. إن دعم أي نظام أو كيان يقوم على مبدأ القوة الغاشمة هو دعم صريح لعدم الاستقرار والظلم وشرعنة للإجرام الموصوف في القوانين الدولية والإنسانية. ولا بد أن تظل الأنظمة التي تعتمد على القمع والقوة الغاشمة لفرض وجودها في حالة صراع دائم مع محيطها، ولا تصلح بطبيعتها غير الطبيعية لبناء علاقات قائمة على السلام أو التفاهم. وكما ثبت بالتجربة المرة، فإن المنطقة التي يتواجد فيها نظام قائم على القوة الغاشمة تظل منطقة غير مستقرة وغير قابلة للتطور أو البناء السلمي، وغارقة في المعاناة والأزمات غير المنتهية.
كما يعلن قادة الكيان بلا خوف ولا خجل، يهدف التفوق العسكري وعرض القوة إلى الهيمنة على دول المنطقة، وتجريد أي قوى إقليمية تعترض على إخضاعها من أي أدوات للقوة. ويدعم الكيان هذا التوجه بسياسة الضربات الاستباقية ضد أي بادرة لتحدي غطرسته، بما ينطوي عليه ذلك من تصعيد التوتر الإقليمي والمزيد من عدم الاستقرار. وفي الحقيقة، لا تتوقف المخاطر التي يشكلها الكيان الغاشم على الفلسطينيين والمنطقة، وإنما يتعدى ذلك إلى تشويه المفاهيم والقيم والمعاملات على مستوى الكوكب. وقد أدت ممارساته المعروضة على الشاشات والتي تمر بلا محاسبة إلى فقدان الثقة في المؤسسات والهيئات والمحاكم الدولية جملة وتفصيلا. وبالحكم من الاحتجاجات والأنشطة التي تعارض الكيان بمستوى وانتشار غير مسبوقين، فإن الشعوب تشرع في الإعلان عن ضيقها بهذا الموجود الغاشم المناقض لكل تعريفات الإنسانية بطريقة تجاوزت حتى النظام النازي.
ينبغي أن تكون دول المنطقة، على وجه الخصوص، بصدد مراجعة إستراتيجية للسياسات التي تساعد، أو تدعم، أو تسمح بوجود الكيان الصهيوني الغاشم في جوارها. لم يعد بالإمكان تبرير أي مصادقة على وجود هذا الكيان والتعامل معه كشريك محتمل. في الأساس، ينبغي أن تكون مقاومة أي قوة غاشمة هي الخيار الأخلاقي والسياسي الصحيح. ويجب التعبير عن هذا الموقف الذي ستكون كلفته أقل بكثير من العيش تحت سطوة قوة غاشمة، بكل الطرق المتاحة.
ينبغي عزل هذا الكيان ومحاصرته. وإذا كان بالوسع التذرع بالضعف العسكري واللوجستي (وهي ذريعة لا يدعمها تقدير الإمكانيات ولا المنطق)، فيجب التعبير عن رفض الوجود بالقوة الغاشمة بمقاطعة الكيان، وعدم الاعتراف به دبلوماسيا ولا التعامل معه تجاريا، وعدم تسهيل أي سبل تدعم صموده واستمراره. ويجب محاربة سردياته الزائفة التي يبرر بها وجوده. بل يجب تدفيع القوى الدولية التي تدعمه أثمانا أقلها تقليل مساحة تحركها في المنطقة واستبدالها بقوى أقل عدوانية أصبحت تتيحها الترتيبات الدولية الناشئة.
لا يمكن أن يقتنع أحد بأن العرب لا يمتلكون الإمكانيات لتأكيد وجودهم والتقرير بشأن القضايا الإستراتيجية لوجودهم. وسوف يستمع المتابع للتعليقات على الأحداث الكارثية التي يتسبب بها الكيان الغاشم إلى شخصيات غربية تلوم العرب على موقفهم من العدوان الذي يتوجه إليهم، مهما حاولوا إدارة وجوههم عن المذابح ضد مواطنيهم، وتعدد الخيارات التي يمكنهم تفعيلها لو توفرت الإرادة. والتقدير هو أن الموقف الإقليمي السائد لن يجعل أحدا في مأمن أبدا في جوار أحد يُخضعه ويصادر قراره بالقوة الغاشمة.