القدس العربي-نادية هناوي
حين زارتْ فيروز بغدادَ عام 1976 وأحيتْ حفلا غنائيا أثيرا، صدحتْ حنجرتها بقصيدة (بغداد والشعراء والصور ذهبُ الزمان وضوعُه العطر/ يا ألف ليلة يا مكملة الأعراسِ يغسل وجهَــك المطــر) وما أن طرب الجمهور لها حتى ضجَّت صالة المسرح بالتصفيق، بيد أن حزنا شفيفا بدا على وجه فيروز عنوانه ( لبنان) وهذا ما حال دون أن يكون للتصفيق أثر فيها أو تكون لها ردة فعل أو استجابة ما إزاءه، بل راحت تُكمل نشيج حزنها لتقول (أنا جِئتُ مِن لبنان مِن وطنٍ إنْ لاعَبَتْهُ الريحِ تنكسِرُ/ صيفا ولَونَ الثلج حمَّلني، وأرَقَّ ما يَنْدى بِهِ الزَّهَرُ) إنه البلد الوديع والأرض الطيبة والطبيعة الساحرة والنسائم الرقيقة.
لم تنس فيروز كل هذا وهي تغني لبغداد، لم تنس لبنانها وهي تغني لبلاد العرب وعواصمها العتيدة الأخرى مثل مكة والقدس والشام ومصر وعمان. وظل لبنان معها يرافقها مثل القلادة في جيدها ومثل الإسِّوار في معصمها. لا تني تتذكره فتحزن وتحنُّ إليه وهي في أعزِّ لحظات مجدها وتوهج إبداعها. لأن وطنها وبخاصة في سبعينيات القرن الماضي كان يئن تحت هول ماكنة الحرب الأهلية من 1975 حتى عام 1990 والأسباب كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية.
أغاني فيروز في لبنان كثيرة، وأشهرها (احكيلي عن بلدي) ومما يرد فيها (ساعات الفرح القليلي حبيبي إحكيلي/ حلفتك خبرني كيف حال الزيتون/ والصبي والصبيي بفيي الطاحون/ واللوزي والأرض وسمانا/ هو هني بلدنا وهوانا) أما أغنية (ردني إلى بلدي) فتتغنى فيها فيروز بالنسيم وشاطئ الوادي وضفاف النهر والزنبق وسرعان ما ترى نفسها جزءا من ثرى بلادها. وفي أغنية (في قهوة عالمفرق) تسترجع فيروز عبق الماضي السعيد (يا وطني آه بتضلك طفل زغير/ متل السهم الراجع من سفر الزمان/ قطعت الشوارع ما ضحكلي إنسان/ كل أصحابي كبروا واتغير اللي كان/ صاروا العمر الماضي صاروا دهب النسيان).
وإذا كانت هذه الأغاني تُنشد للطبيعة اللبنانية بالدرجة الأساس، فإن أغنيتها (بحبك يا لبنان) واضحة في مقاصدها، وعلنية في عواطفها؛ فالأرض هي مطلب الحبّ الفيروزي وهي منتهى التطلع ومهوى الفؤاد. وفيها تنادي لبنان بـ(يا وطني) بشماله وجنوبه وسهله، وبعزِّه وفقره. واللازمة التي يتكرر ذكرها في الأغنية هي (بحبك يا لبنان يا وطني) وتعاهده أنْ تظل بقربه حتى إن غاب الأحباب وأشتد العذاب. وها هي تكذِّب ذاك الذي يقول إنها تترك تراب لبنان، وكيف تتركه وهو تاج الأرض. ولأن لبنان دائم التأثر بالخطوب والصراعات، تخشى فيروز أن ينساها وهي التي تحبه. ولكنه لا ينساها وهو الذي يتجدد بشعب عنيد وحب مجنون (إذا نحنا تفرقنا/ بيجمعنا حبك/ وحبة من ترابك/ بكنز الدنى/ وبحبك يا لبنان/ يا وطني).
هذا الحب الصميم للبنان جعل فيروز رمزا وطنيا ومثالا أبديا للحب الخالص للأرض، والمنزه من أي أغراض أو مكاسب. إنه الحب الأصيل الذي صيَّر فيروز قبلة، حولها يلتمّ شمل اللبنانيين أيا كانت مشاربهم ومنحدراتهم وطوائفهم. هي جارة القمر التي بالتطلع إليها يهتدي التائهون، ويقتدي المريدون ويفتدي لبنان المحبون. إن فيروز أيقونة الصلح والتصالح، ولطالما بعثت رسائل إلى الشعب بصوتها الملائكي داعية للبنان، وداعمة له في مختلف أزماته المحلية والعربية والعالمية. فخلال أزمة كورونا العالمية ظهرت فيروز في مقطع فيديو وهي تقرأ آيات من الكتاب المقدس بثت السكينة وأحيت الأمل بزوال الجائحة. وحين جرى الاعتداء الصهيوني الأخير على بيروت وضواحيها نادت فيروز بلدها بـ(لبنان الكرامة والشعب العتيد).
إنها فيروزة لبنان التي أهداها له الزمان، بصوتها المنغم بالهمسة، المترنم باللوعة الشفيفة، فيه يلتقي الوئام بالصفاء، والقناعة بالرضا المتأمل، ويتمازج الحنين والشجن بالمحبة والأمل. وهذا ما جعل لهذا الصوت مهابة خاصة ومكانة أثيرة في نفوس العرب قاطبة. غنت فيروز مختلف أطوار الغناء العربي وبقوالب موسيقية مختلفة، فكشفت عن طربية أصيلة ونفس مكتنزة بالرقة والمواطنة الحقة. شاركت بلدها الجريح سلمه وحربه، سراءه وضراءه حتى صارت هي نفسها وطنا يحتضن الجميع ورمزا روحيا لكل القيم والمبادئ وأيقونة ملائكية عركتها الشدائد والمصاعب، فما كلت ولانت، بل ظل صوتها ملاذا حين تعز الملاذات، وتاريخا يمتد إلى الحاضر ويتجه صوب المستقبل. لقد تجسدت وطنية فيروز ورمزيتها على الصعيدين الشعبي والرسمي، فنالت أعلى الأوسمة الدبلوماسية وتنوطت وتقلدت أرفع الأنواط من لدن مقامات وشخصيات دولية عليا، وهي التي يقصدها في بيتها كل يوم العامة والمشاهير ويحجُّون إلى دارتها. وهذا ليس بالغريب فبيتها عتبة لبنان، منها يبدأ الزائر تجواله في البلد الحبيب إلى نفوس كل العرب كما هي فيروز. إن ما يميز الاغنية الفيروزية ليس ألحانها حسب؛ بل أيضا قوة معانيها التي تشدُّ النفوس إلى الأرض، صادحة للوطن لبنان وللوطن الكبير الممتد على خرائط الكون من الشام لبغدان، مرورا بفلسطين قضية العرب المصيرية الأولى. ولا فرق في أن تترنم فيروز بالكلمات الشعبية أو الفصيحة، فالشعر في صوتها واحد فصيحا كان أم عاميا كما أن جمال القصيدة واحد، غنائية كانت القصيدة أم مسرحية.
واليوم إذ يتعرض البلد الجميل لبنان إلى هذه الهجمة الشرسة والوحشية من لدن الكيان الصهيوني وداعميه الإمبرياليين، فإن ثورة الصوت الفيروزي تتنفض مجددا كما انتفضت في نكسة حزيران/يونيو والحرب الاهلية مستبشرة بالأمل في أن تنتهي الهجمة إلى الخواء وينكسر الشر الصهيوني على أبواب قلعة الوطن الذي رمزه فيروز. فالغضب الساطع آتٍ على جياد الرهبة عازما أن يهزم وجه القوة، ذلك أن الوطن فيروز، والثورة فيروز. وبهما يُعاد بهاء الماضي التليد ويتأكد سحر لبنان الآسر الذي ما زال خالدا، فالسلام آت مهما تلبدت السماء بالغيوم ومهما تعاونت خفافيش الشر على إبقائه في الظلام، وقريبا سيولد النور الذي يبدد العتمة وينير دروب الزمان، وقد تَظلل لبنان بالأفياء والمنى، مشيعا الحب والحنان ومقربا المسافات وقد تلاقت قلوب اللبنانيين والعرب جميعا من جديد في وطن واحد.
إن لبنان فردوس نرسمه وآذاننا تطرب بما يأتي به الصوت الفيروزي من سحر وجمال وتفاؤل بعالم جميل نحلم به مقبلا إلينا وليس لنا سوى أن نفتح أذرعنا ونستقبله بكل إخلاص ونقاء مزيلين عن كاهلنا الأحقاد وعن أيدينا الأصفاد، مدارين جراحنا غير متلفتين الى الوراء.
وما نستذكره في يوم الميلاد الفيروزي في 21 تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام هو استلهام الأصالة والقوة والمحبة والجمال من عيني فيروز. سلاما لفيروز لبنان بعيد ميلادها التسعين وكل عام وهي بألف خير. ولقد كان من دواعي الفخر أني شاركت مع سبعة وثلاثين باحثا وناقدا عربيا في تأليف الكتاب التذكاري الموسوم (وطن اسمه فيروز) 2023. وإني لآمل أن أكتب عن فيروز مؤلفا خاصا، أُجسِّد فيه عمق حبي وافتناني بمطربتنا العتيدة؛ فيروز لبنان وقلبه النابض.
٭ كاتبة عراقية