عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Sep-2024

نظرة تفوقية صفيقة..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

أغراني عنوان مقال منشور في موقع «ريل كلير وورلد، الذي أعرف أنه يميني، تفلت فيه أحيانًا مقالات معقولة. لكنني عندما قرأته وجدت نفس الغطرسة و»الاستثنائية» التي تميز «الرجل الأبيض»، وخاصة في أميركا. عنوان المقال هو «‏أميركا جعلت سفر الأميركيين في العالم أقل أمانًا» لكاتب يدعى ماريو دوارتي. وتوقعت أن الكاتب سيؤكد حقيقة أن السياسات الخارجية الأميركية التدخلية والعنيفة تتسبب بالمزيد من كراهية الكثيرين في العالم لأميركا ومواطنيها. لكن الكاتب يحيل إلى سبب آخر، فيكتب: «تكشف العناوين الرئيسة عن اتجاه مقلق من المخاطر المتزايدة على المواطنين الأميركيين في الخارج. كل هذا نتيجة لافتقار الأميركيين إلى الحزم في التعامل مع أولئك الذين يؤذون الأميركيين في الخارج».‏ ويؤكد لاحقًا: «‏والسبب البسيط لذلك هو أن الولايات المتحدة توقفت عن فرض ثمن لقتل أو جرح مواطنينا».‏
 
 
ويعرّج الكاتب على «الاستثنائية» المتصورة للمواطن الأميركي، فيكتب: «سواء من خلال الاختطاف أو الابتزاز أو العنف الصريح، لم يعد المواطنون الأميركيون يتمتعون بالحماية التي اعتقدوا ذات مرة أنها تأتي مع جنسيتهم.‏.. ‏في ذروة الإمبراطورية الرومانية، كان بإمكان المواطن الروماني السفر إلى أي مكان في العالم المعروف مسلحًا فقط بعبارة  civis Romanus sum، «أنا مواطن روماني». واليوم، كمواطن في أقوى دولة في العالم، يجب أن يكون أي أميركي قادرًا على السفر حول العالم بأسره مسلحًا فقط بعبارة «أنا مواطن أميركي»، ويعرف أنه سيكون آمنا، لكن هذا ببساطة ليس واقع الحال».‏
 
إذن، الأميركي فقط هو الذي يجب أن يتنقل بأمان لأنه ينتمي إلى دولة قوية، بينما مواطنو الدول الضعيفة أو المسالمة في العالم هم أولاد البطة السوداء، الذين تتدخل في تحديد مصائر الكثير منهم وحركتهم في العالم هذه الدولة القوية نفسها.
تنطوي فكرة دوارتي على تناقض أساسي، حيث التخويف بالقوة الذي يدعو إليه هو الذي يجعل الآخرين يثورون على الإذلال الصفيق الذي تمارسه دولته ويلجأون إلى العنف ضد الأميركان كرد فعل يائس. ومن المؤكد أن المواطنين الأميركيين ليسوا كلهم مثل دوارتي، والعنف الجماعي في حقهم ليس مبررًا تمامًا، لكن الولايات المتحدة هي المعلم الأكبر لاتجاه الوصم الجماعي، وبالتالي الاستهداف الجماعي لشعوب بأكملها بذرائع «الإرهاب» و»التطرف» وبقية الأوصاف التي توزعها كيفما تشاء.
تنطوي فكرة التفوقية الأميركية، التي تتجلى في الاعتقاد بأن المواطن الأميركي يستحق امتيازات وحماية أكثر من غيره من مواطني العالم، على عدد من العيوب الجذرية التي تلوث العلاقات الدولية والعدالة العالمية. وتتصل هذه الفكرة بنظرة استعمارية متأصلة، تعكس رغبة في بقاء الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، وتدفع نحو توزيع «حقوق الإنسان» تبعًا للجنسية، في تناقض مفضوح مع المبادئ العالمية للمساواة والعدالة.
فكرة التفوقية تروج التصور المغلوط بأن حياة المواطن الأميركي أكثر قيمة من حياة الآخرين، سواء في القرارات السياسية أو التدخلات العسكرية. وهي تكمن في قلب السياسة الرسمية الأميركية التي تُسند «القيمة» للناس حسب رؤيتها ومصالحها. والمثال الأحدث هو رفع قيمة «الإسرائيلي» وخفض قيمة الفلسطيني بحيث تُقدر حياة عشرات من الأسرى الصهاينة أكثر من عشرات آلاف الفلسطينيين من الأسرى داخل السجون أو تحت الاستعمار. وتعزز هذه النظرة العنصرية على المستوى العالمي وتكرس النظرة الدونية للشعوب الأخرى، بإشراف «قائدة النظام العالمي».
عندما تستخدم الولايات المتحدة قوتها الاقتصادية والعسكرية لضمان مصالحها الخاصة على حساب مصالح الآخرين، فإن من الطبيعي أن يولد ذلك مشاعر الغضب والرفض لدى الشعوب والدول المتضررة– وما أكثرها، خاصة في المنطقة العربية والجنوب العالمي.
مع ذلك، يكتب الكثير من الباحثين والكتاب- الأميركيين بشكل رئيسي- محذرين مما يسمّونه «الانعزالية الأميركية»، بمعنى تبني الولايات المتحدة سياسات أو مواقف تحد من تدخلها في شؤون الآخرين والانتباه لمصالحها الداخلية. لكن الولايات المتحدة لا يمكن أن تختار عزل نفسها عن التحكم في إيقاع العالم، ولن يتحقق تخلص العالم من طريقتها المؤذية في التدخل إلا عندما يتم عزلها بفعل حركة التاريخ والقوى الصاعدة. وإلى أن يحدث ذلك، وسيحدث كحتمية تاريخية، سيحتفظ المواطنون الأميركيون بالاعتقاد بأن بلدهم في وضع استثنائي يتيح لهم الامتياز وكأن المساس بهم كفر. وربما تكون هذه هي الوصفة المثالية للانتحار الوطني على المدى الطويل.