عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    31-May-2019

الحداثة والماضویة - د. ھاشم غرایبة
الغد- لو سئل أي شخص محاید عن أھم ما یمیز الخطاب العربي الإسلامي المعاصر عن الغربي، لأجاب فورا أنھ مغرق في الماضویة فلا یتحدث في قضیة إلا ویستعید الماضي سواء للمقارنة، أو للتغني بأمجاد الماضي تعویضا عن حالة الھوان الحاضرة، فیما ینصب الخطاب الغربي على تحدیات
التنافس المعاصرة وبروح استشرافیة للمستقبل.
الحقیقة أن الأمم كالأشخاص، تمیل الى إظھار الجانب المشرق لدیھا، فمن كان مجده الغابر أفضل
من حاضره المتعثر، یمیل الى إبراز تاریخھ ذاك والتغني بما كان علیھ أجداده، ومن كان یعیش
مرحلة ازدھار وتقدم، فحاضره یغنیھ.
ربما كان انصراف الغرب عن استذكار الماضي، أنھم لا یجدون في تاریخھم ذلك الماضي الأكثر
إشراقا من الحاضر، فھل سیتذكر الأوروبیون حروب الأطماع الطاحنة الإغریقیة والرومانیة، أم الحروب الدمویة للفایكنغ والھون وحرب المائة عام وحروب نابلیون، أم الحربین العالمیتین التي أوقدھا الأوروبیون وعمت آثارھا المدمرة كل العالم؟.
وبماذا سیتغنى الأمیركیون بأمجاد تلیدة.. ھل بإبادة سكان الأمیركتین الأصلیین أم باستعباد الأفارقة
وانتھاج التمییز العنصري؟
ربما ھذا یفسر تمایز الخطاب، لكنھ لا یبرر انصراف خطابنا الى اجترار الماضي، سواء بكاء على
أمجاد دارسة، أو الافتخار بحضارة سادت زمنا ثم بادت، ففي كلتا الحالین إن لم یكن منتجھما
التحفیز لانطلاقة مثیلة، فھما مخدر ینسي مشكلات الحاضر، لكنھ على العموم ضار؛ إذ یؤجل حل
مشكلة التخلف عن ركب الأمم.
لقد كان مما حبى الله بھ ھذه الأمة من مكرمات أن جعل العبادات التي یتقرب الناس بھا من الله،
وسیلة إجباریة لدوام خیریتھا بین الأمم، لكنھم أخذوا ظواھرھا وطقوسھا، وتركوا معانیھا
ومراداتھا.
ولو أخذنا خطبة صلاة الجمعة على ذلك مثلاً، فھي میزة ممیزة انفردت بھا أمة الإسلام، فقد جعلھا
الله محاضرة أسبوعیة، وحضورھا إجباریا، الھدف منھا أن یقدمھا المسؤول، والذي یفترض أن
یكون ھو الإمام، لأن اختیار الإمام یكون بناء على أفضلیتھ علما وفھما وأخلاقا وخبرة، وفوق ذلك
فقھاً وحفظاً للقرآن، وھي الصفات ذاتھا المطلوب توفرھا للمسؤول السیاسي أو الإداري، لذا یقدم
الخطیب -الإمام- المسؤول توجیھاتھ، أو یطرح حلولا لمشكلات آنیة ضمن اختصاص سلطتھ، یقدر
أن أھمیتھا الراھنة مقدمة على غیرھا.
لكننا في التطبیق ومنذ أربعة عشر قرنا، وبعد انتھاء الخلافة الراشدة، جرى اختزالھا الى مجرد
حدیث عن الماضي، ممثلا بأفعال أھل القرن الأول الحمیدة.
والذي یخطب في الناس موظف یتقاضى أجرا لقاء استكمال تلك الطقوس، التي لن تنتج شیئا، لأن
الخطیب لیس مسؤولا عن كلامھ؛ إذ لیست لھ سلطة اتخاذ القرار، فمنذ القدم یكرر الخطباء المقدمة
ذاتھا التي كان یبدأ بھا رسول الله صلى الله علیھ وسلم خطبتھ: ”إن الحمد  نحمده ونستعینھ
ونستغفره ونعوذ با من شرور أنفسنا ومن سیئات أعمالنا من یھده الله فلا مضل لھ...الخ“، وینھونھا بقولھم: ”أقول قولي ھذا وأستغفر الله ولكم ویا فوز المستغفرین استغفروا الله“.
وبین المقدمة والخاتمة یتجنبون أي حدیث عن الحاضر ومشكلاتھ، لذلك فیستغرقون في سرد وقائع
أحداث فجر الدعوة، والتي یحفظھا السامعون عن ظھر قلب، ومجرد التذكیر بھا لن ینفع، فیخرجون من الجمعة كما دخلوھا.
ومن جانب آخر تجد الدعاة والعلماء الذین على رأس واجباتھم الإصلاح، یصرفون اھتمام الناس
عن المفاسد في الحیاة، بالاستغراق في تفصیلات العبادات، وإیھام العامة بأن الله لن یتقبل طاعاتھم
إلا إن كانت حذافیریة.
وھؤلاء النفر من الأمة، الذین ما فتح الله علیھم من العلم، وما رفعھم الله بھ درجات عن عامة
المسلمین، إلا لكي یكونوا مصلحین للأمة ومجددین للدین، ولكي یدفعوا بالأمة للتقدم لكي تتبوأ
موقعھا الطلیعي، ولیس لخدمة أصحاب السلطة المنشغلین بتكدیس الأموال عن واجبھم في النھضة
بالأمة.
لذلك ھم المسؤولون بالدرجة التي تلي مسؤولیة السلطان عن تردي الأحوال وتخلف الأمة،
ُ ومسؤولیتھم ناجمة عن أنھم أصحاب الخطاب الم ِّوجھ للعامة، والخطاب الناقد الناصح.
ھذا الخطاب یفترض بھ أن یكون مواكبا للأحداث ومعالجا لمشكلات الواقع الراھن، لذلك فھو
حداثي الطابع، مستقبلي الرؤیة.
لكننا نراه واقعا متعامیا عن كل ذلك، یقفز عن الھدف، لأنھم لا یریدونھ أن یحسب خطابا تحریضیا،
لذلك لا یجدون وسیلة أسلم من الاستغراق في الماضي وسرد قصصھ، ولا یجدون أجدى في
التھرب من واجبھم غیر الحدیث في أخلاق السلف الصالح، والدعوة الى تقلید نمط حیاتھم وطابع
ملابسھم ومظھرھم الخارجي الذي كانت التقالید الاجتماعیة للعرب ذلك الزمان تفرضھ، فیعتبر
أن تقلید تلك المظاھر ھي جوھر الدین وعنوانا لاتباع السنة، وتجدھم یتوقفون عند ذلك، ولا یذكرون أن ممارستھم الجھاد والتضحیة بالمال والنفس ھي التي حمت كرامة الأمة، ولیس كثافة لحاھم، وأن من أھم أسباب نصرھم أنھم كانوا یقاتلون تحت قیادة زاھدین في متاع الدنیا مخلصین لھذه الأمة، ولیس الأمر عائداً الى قصر (الدشداشة) التي یرتدونھا أو طولھا.
ھكذا نتوصل الى تفسیر استغراق الأمة في الھرب من الحاضر الى الماضي، فھي لیست في العقیدة التي تنتھجھا، فالعقیدة تقدمیة تسعى الى إبقاء الأمة في الصدارة بین الأمم المتنافسة، وتحقق ذلك فعلاً عندما انتھجت التوحید ونبذت الشرك وعبادة الأوثان، فرفعھا ذلك الى القمة، لكن الردة عن ذلك الى تقدیس الأشخاص والعودة الى عبادة الأصنام البشریة، أبطلت سر خیریة الأمة المتمثل بالأمر بالمعروف والنھي عن المنكر، فتولدت النفسیة الانھزامیة التي أخلدت الى الأرض.
نستخلص في النتیجة أن الماضویة لیست من الدین، بل سمة الدین التجدید، بدلالة نشوء الفقھ
وتوسع اجتھادات شیوخھ وأئمة مذاھبھ في قرون تالیة لزمن التنزیل، واستمر ذلك الى الیوم متمثلا
في توسع علوم الشریعة وأصول الدین.
وما أسباب انھزام الأمة وتوالي تراجعھا، إلا بسبب التخلي عن جوھر الدین ومرادات التشریع،
والاكتفاء بالطقوس ومظاھر التدین.