عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Jul-2022

غسان كنفاني إطار مرجعي للسرد الفلسطيني* علاء الدين أبو زينة

 الغد

خمسون عاما تمر غدا على استشهاد المناضل والروائي والمفكر الفلسطيني غسان كنفاني. ولكَم تغيرت منذ رحيله الأشياء! أصبحت روايته للقضية الفلسطينية متناقضة على طول الخط مع الرواية الفلسطينية الرسمية الحالية. كبداية، تنازل القادة الفلسطينيون للعدو في العقود الأخيرة عن عكا، مسقط رأس غسان -ومعظم قرى وبلدات أبطال قصصه ورواياته. ولم يكن الأمر مجرد اعتراف سياسي وقانوني بوجود المستوطنين المستعمِرين في معظم فلسطين التاريخية، وإنما تعداها إلى التخلي عن حق اللاجئين الفلسطينيين المقدس في العودة إلى بلدهم التاريخي وعن حقهم في استعادة أملاكهم ومنازلهم.
لو عاد غسان الآن لوجد أنه لم يعد فلسطينياً. لم تعد مدينته بأي شكل ضمن مطالبات الرسميين الفلسطينيين. ولو قيض لمخططات “السلام” التي يتم التفاوض عليها (والتي لم تفضِ إلى تحرير بوصة من فلسطين)، فسوف يُكتب بعد حين في التاريخ: “ولد غسان كنفاني في مدينة عكا في ’إسرائيل”، حتى في كتب التاريخ الفلسطينية، وفاقاً للاعتراف للعدو بالشرعية. وسوف ينضم غسان إلى ملايين الفلسطينيين الذين يُسلمون الآن إلى اللامكان.
لو عاد غسان، لوجد أن الكفاح والمقاومة اللذين آمن بهما كطريق وحيد لا بديل عنه لتحرير الوطن، شُطبا من مفردات الخطاب الفلسطيني الرسمي. ولو كان غسان موجوداً الآن –بما آمن به واغتيل لأجله- لانتهى به المطاف معارضاً. ولا يُستبعد أن يتم تسليمه للعدو باعتباره “محرضاً على العنف” –أو أن يسجنوه في سجون “الدولة” الفلسطينية الخيالية، سوى في سجونها وشرطتها، بنفس التهمة.
باختصار، سوف يعتبر الخطاب الفلسطيني الحاكم اليوم غسان كنفاني في أحسن الأحوال منظّر مرحلة بائدة. وسوف يرى مقولاته يوتوبية وغير ذات صلة. وكما حدث مع الأناشيد والقصائد الثورية التي حثت على التمسك بالوطن التاريخي وعدم الاستسلام والتسليم للعدو، التي يتم إخفاؤها الآن والتبرؤ منها، ربما يفضل الخطاب المتحكم وضع إرث غسان ومقولاته في مستودع بعيد عن الأنظار.
مثل كل شيء آخر تقريباً في عناصر القضية الفلسطينية، أصبحت قيمة ما قاله فعله غسان خاضعة لمعايير الانفصال الذي أصبح عضوياً بين القيادة الفلسطينية والجماهير الفلسطينية. بالنسبة للفلسطينيين الذين يقصيهم الآن “الصديق” قبل العدو، عبر غسان وسيعبر دائماً عن آلامهم وأمانيهم ورؤيتهم لبلدهم. ولا يجوز لأحد أن يسحب الآن منه جنسيته –مع كل المهجّرين من أصحاب فلسطين التاريخية. ومن المؤكد أن الشعب يعتبره إطاراً مرجعياً موثوقاً وثق حكاية النكبة –التي لا يقول أي منطق عادل أنها يجب أن تصبح أبدية بموافقة المصابين بها.
لن يحب أصحاب الفكر غير الثوري الذين يديرون القضية الفلسطينية بطريقة خائنة للذات أن يسمعوا غسان الآن. إنه صاحب الوصفة المنطقية لإبقاء قضية الفلسطينيين حية ومعافاة بكل مكوناتها الحيوية: “إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية”. والفاشل في الدفاع عن القضية هو الذي يقرر أن يخسرها، ويكون كل ما يفعله هو التخلي عن مطالبها بلا توقف من دون أي مكسب. ولو كانت القيادات الفلسطينية المعينة ذاتياً والتي تحتكر الخطاب متلزمة بالشرف الوطني، لاعترفت بفشها وأفسحت المكان لغيرها. كان كل فعلته هو تقويض أركان القضية الفلسطينية والموافقة على تغيير السرد لصالح العدو فقط.
في هذه الأوقات الفلسطينية القاتمة التي ضُيعت فيها البوصلة، لا ينبغي إحياء ذكرى غسان بالهتاف العاطفي. ينبغي بالضبط إخراج إرثه الأدبي والفكري إلى الضوء، لاستعادة الصواب الضائع وسياق السرد الوطني الفلسطيني . وعندما تحدث عن القضية والمدافعين، فقد وثق ماهية القضية وحدد معيار نجاح وفشل المدافعين. ولم يكن عمله تنظيرياً فوقياً بقدر ما كان توثيق الرواية على ألسنة شخوصها التي عايشت النكبة، وناضلت لكي تعكسها.
سوف يظل الإبداع السردي والجمالي وصفة لمَن يريد أن يتعلم حب القراءة. لكنه من أجود المراجع لمن يريد أن يعرف ما هي القضية الفلسطينية، الحقيقية. وينبغي أن تكون قراءة غسان جزءً من تعليم الفلسطينيين لأبنائهم وتكوين أدوات للحكم على “المدافعين” وتمييز انحرافهم عن القضية وتلاعبهم الانتحاري بالسرد، الخائن لأنفسهم ومواطنيهم.