عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-Oct-2025

القاعدة الجوية*إسماعيل الشريف

 الدستور

لو لم تكن هناك «إسرائيل»، لاضطرت الولايات المتحدة إلى اختراع واحدة لحماية مصالحها في المنطقة - جو بايدن.
خلال الغزو الإيطالي لليبيا، أقدم الطيار الملازم جوليو نامافوني على ابتكار مروّع، إذ ثبّت صواعق على قنابل يدوية صغيرة تزن كيلوغرامًا واحدًا، وألقاها من الجو فوق معسكرات المقاومة الليبية. وقد عُدَّ ذلك في حينه عملًا جبانًا أثار موجة استنكار وغضب عارمين.
وجد الاستعمار آنذاك أنها وصفة مثالية، فهي تقتل المقاومين وأبناءهم وزوجاتهم، وتدمّر منازلهم وتقضي على البنية التحتية من دون أن يتكلف جنديًّا واحدًا. لذلك استخدمها هربرت صموئيل، المفوض السامي لبريطانيا في فلسطين، لقمع التظاهرات التي عمّت البلاد احتجاجًا على المشروع الصهيوني. كما استُخدمت في العراق بين عامي 1917 و1932، فأُبيدت قرى بأكملها هناك.
توهمنا أن زمن الاستعمار التقليدي قد ولّى، فإذا به يعود بوجه جديد حين غزت الولايات المتحدة العراق، فاحتلّته ونصّبت مندوبها السامي بول بريمر ليديره كما كان نواب الملك البريطاني يديرون مستعمراتهم. نهبت النفط والخيرات، ثم خرجت في نهاية المطاف تجرّ خيبتها. وظننا أن دروس العراق وأفغانستان قد لقّنت الاستعمار درسًا لا يُنسى، فإذا به يعاود الظهور من بوابة مختلفة، بترشيح توني بلير الملطخة يداه بدماء العراقيين، دون حتى استشارة أبناء الأرض، في مشهدٍ يعكس عودة الإمبريالية بثوب جديد.
تتطلّب هذه المرحلة وما قبلها أمرين: أن يصبح الكيان قاعدة عسكرية متقدّمة للغرب، كما وصفها بايدن، وأن يكون بمثابة قاعدة جوية تمتلك أكبر وأقوى القوات في المنطقة دون منافس، بحيث لا تستطيع أي دولة مهما تسلّحت أن تقف في وجهها.
تحتمي هذه القاعدة الجوية بأنظمة دفاع متفوّقة، وتملك أحدث الطائرات المقاتلة. ومن قواعدها تقلع الصواريخ والطائرات المسيرة لتبلغ أي هدف تختاره، مُحدثة أضرارًا جسيمة تغيّر معادلات الأمن في المنطقة.
على مدى سنتين شاهدناها ترسل لهيبها على غزة وتُحدث دمارًا لم تعرفه مدينة في التاريخ، كما أرسلت طائراتها إلى دولٍ عدة في المنطقة: إلى سوريا التي لم تشكّل لها تهديدًا، وإلى لبنان واليمن، وحتى إلى الضفة الغربية حيث تستهدف المقاومين هناك. وأخيرًا طالت قطر، التي أدّت خلال العامين الماضيين دورَ وساطةٍ مهمًّا ومطلوبًا. كما استهدفت عبر طائراتها قيادات أعدائها، ومن بينهم مفاوضون في سابقة نادرة في التاريخ.
أما الهدف الثاني، فكان الإبقاء على دول المنطقة في دائرة الفقر والعجز، ومنعها من تحقيق تنمية حقيقية تُحرّرها من قيود التبعية الغربية. ذلك ما يُسمّى بـ«الاستعمار الناعم»، الذي يقوم على إفقار مقصود وممنهج. ويتجلى هذا بوضوح في استهداف الطيران الصهيوني للمنشآت النووية الإيرانية، وحين عجزت تلك القاعدة عن بلوغ أهدافها وتلقّت ضربات موجعة، سارعت الولايات المتحدة إلى التدخل بنفسها، فقصفَت المفاعلات النووية، وحمت قاعدتها العسكرية، وأنقذتها .
لم يكن الهدف من ضرب المنشآت النووية الإيرانية منعَها من امتلاك السلاح النووي كما زعموا، بل كان ذلك الذريعة. فإيران الموقّعة على اتفاقية حظر الأسلحة النووية لم يُثبت يومًا أنها سعت إلى إنتاج هذا السلاح، حتى خلال حرب الإبادة في غزة. ومع ذلك، نسج الساسة الغربيون ومعهم مراكز الدراسات رواية مضلّلة، مدّعين أن إيران على بُعد أسابيع من امتلاك القنبلة النووية. ثم بلغ التناقض ذروته حين قصفوا إيران وهي على طاولة المفاوضات بشأن اتفاقها النووي، بعد أن مزّق ترامب الاتفاق الأول خلال ولايته الأولى.
الهدف الحقيقي وراء كل ذلك هو إبقاء إيران في فقرٍ متعمّد، رغم امتلاكها كل المقومات لتتحول إلى قوة إقليمية عظمى، كما هو حال العراق . إنهم يريدونها أن تبقى دولة عازلة، محرومة من فرص النهوض والتمكين، ومكبّلة بقيود التبعية.
حين شرعت إيران في تنفيذ مشروعها العملاق لمدّ السكك الحديدية في القرن التاسع عشر، سارعت بريطانيا إلى إفشاله واستهدافه، تمامًا كما فعلت قاعدة الاستعمار المتمثلة في الكيان الصهيوني حين قصفت البرنامج النووي العراقي السلمي في ثمانينيات القرن الماضي.
إنه نمط جديد من الاستعمار، أكثر دهاءً وخبثًا من أشكاله الكلاسيكية؛ فبينما سعى الاستعمار القديم إلى السيطرة على الأسواق ونهب الموارد، يهدف هذا الشكل إلى ما هو أخطر: إبقاء الدول في فقرٍ دائم، محرومة من فرص التنمية، أسيرة لعجزٍ مقصود يُبقيها في فلك التبعية.
تجتمع في منطقتنا اليوم ثلاث صور من الاستعمار في آن واحد: القاعدة الاستعمارية المتمثلة في الكيان الصهيوني ذراع الولايات المتحد ة ومخلبها في المنطقة والاستعمار المباشر الذي أعاد تشكيل نفسه في فلسطين، وأخيرًا الاستعمار الناعم القائم على الإفقار الممنهج.
ومع ذلك، يظل درس التاريخ ثابتًا لا يتبدّل: أن الاستعمار، مهما طال به الزمن، فمصيره الحتمي هو الهزيمة. نشاهد اليوم حجم الدمار الهائل في غزة، شبيهًا بما حلّ بدريسدن وستالينغراد، غير أن النتيجة واحدة؛ فكما لم تنكسر تلك المدن رغم أنقاضها، كذلك غزة لم تنكسر، بل صمدت وتحدّت الغزاة. والسؤال اليوم ليس هل ستتحرر فلسطين، بل متى ستشرق ساعة التحرير؟