عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Nov-2025

أَدخِلوا المساعدات*إسماعيل الشريف

 الدستور

(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) – البقرة 100.
أخرج ترامب الكيان الصهيوني من عزلته الدولية، متباهياً بأنه أنهى حرباً استمرت ثلاثة آلاف عام في المنطقة، مقدِّماً نفسه بوصفه سيّد العالم ورجل السلام.
لكن بعد الهدنة التي دخلت حيّز التنفيذ في العاشر من تشرين الثاني، واصل الكيان الصهيوني قتل الفلسطينيين بلا هوادة؛ إذ بلغ عدد الشهداء في يومٍ واحد مئة شهيد، وكأنّ ذلك يومٌ عاديّ من أيام المجزرة. بات الكيان يحتل أكثر من نصف قطاع غزة، ويمنع دخول الشاحنات المحمّلة بالمساعدات الإنسانية، ويفجّر الأحياء السكنية .
وفق خطة ترامب، كان من المفترض أن تدخل إلى القطاع يوميًّا نحو ستمئة شاحنة مخصَّصة لقطاع غزة، وهو العدد ذاته الذي كان يدخل قبل المجزرة، محمّلاً بالحدّ الأدنى من المواد الغذائية اللازمة لتأمين السعرات الحرارية لكل فرد. وقد فُرض حينها نظامٌ دقيق يُعرف إعلاميًّا باسم «الاحتياجات المعيشية دون بلوغ حدّ المجاعة القانونية» .
وتؤكّد تقارير ودراسات عدّة هذه الحقائق، من أبرزها تقرير صادر عن منظمة غيشاه – مسلك الإسرائيلية لحقوق الإنسان عام 2012، حيث اعترفت وزارة الدفاع الصهيونية بوجود نموذجٍ حسابيّ يُحدّد الكمية المسموح بها من الغذاء بناءً على عدد السعرات الحرارية لكل فرد في غزة، بحيث تبقى الكميات كافية لتجنّب أزمة إنسانية، ولكن دون أن تبلغ حدّ الوفرة. كما كشفت وثائق المحكمة العليا الإسرائيلية أنّ الكيان حدّد الحد الأدنى من الاستهلاك بنحو 2279 سعرة حرارية للفرد يوميًّا، واستخدم هذا المعدّل لتقدير عدد الشاحنات المسموح بدخولها، والبالغ نحو ستمئة شاحنة تحمل الطعام والوقود والمواد الأساسية.
خلال المجزرة استخدم الكيان الصهيوني سلاح التجويع، فقلَّص عدد الشاحنات الداخلة إلى القطاع إلى ما بين ثلاثين وخمسين شاحنة يوميًّا فقط. فاستشرت المجاعة وسقط الأطفال شهداء جوعًا، في مشاهد أعادت إلى الذاكرة مآسي نسيها العالم، لكنها أيقظت ضميره، فاشتعلت الضغوط الشعبية على حكومات الغرب، وتحول الكيان إلى دولة منبوذة، ولم يكن حينها بُدٌّ من إيقاف المجزرة.
غير أن سياسة التجويع لا تزال مستمرة؛ فبحسب خطة وقف إطلاق النار، ورغم المجاعة والدمار غير المسبوقين في أي مدينة بالعالم، نُصّ على السماح بدخول ستمائة شاحنة يوميًّا، وهو رقم متواضع أساسًا، إلا أن الكيان المجرم أبلغ الأمم المتحدة بموافقته على دخول ثلاثمئة شاحنة فقط. أما على أرض الواقع، فلا يدخل إلى القطاع سوى أقل من مئة شاحنة يوميًّا، وفي اليوم الذي سبق أمس لم تدخل سوى ست شاحنات فقط!
كان ينبغي أن تهزّ هذه الوقائع ضمائر برلمانات العالم وسائر سياسييها، لكنّ هذا الملف يختفي عن شاشات الإعلام هناك. فالغرب ما زال متواطئًا في إبادة وتجويع أهالي غزة، يغضّ الطرف عن معاناتهم، وتستمر الجريمة من دون محاسبة.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ كبرى المنظمات الإنسانية الغربية، مثل أطباء بلا حدود وأوكسفام وأنقذوا الأطفال، تتهم الكيان بعرقلة عملها بحججٍ واهية؛ فيزعم أنه لم تُجدَّد تراخيصها، أو أن موظفيها لا يحملون الوثائق المطلوبة، أو أن صلاحية بطاقاتهم قد انتهت. ونتيجةً لذلك، يُمنع أفرادها من دخول غزة وإيصال المساعدات إلى من هم بأمسّ الحاجة إليها.
هؤلاء ليسوا ناشطين سياسيين ولا صحفيين، بل أبطالٌ يخاطرون بحياتهم في مناطق الصراع والكوارث والزلازل والأوبئة لأداء واجبهم الإنساني. ومع ذلك يُعاقَبون لأنهم ينقلون الحقيقة كما رأوها بأعينهم. ولا يجرؤ أحد من حكومات الغرب على التنديد بهذه الانتهاكات، ولا تتحرك أي دولة للضغط على الكيان، وهم الذين طالما أرهقوا العالم بخطبهم عن حقوق الإنسان وشعاراتهم الجوفاء حول الكرامة والعدالة.
وما زال الغرب يواصل دعمه للكيان، حتى وإن كان ذلك على حساب رفاهية شعوبه. فقد أخبرني قريب لي يعمل في ألمانيا أن فاتورة التدفئة قد تضاعفت، بينما يعاني قطاع الطيران من شللٍ تام؛ إذ يتغيب موظفو المراقبة الجوية عن أعمالهم، وتُغلق المطارات في الولايات المتحدة بسبب الإغلاق الحكومي. وهناك ملايين الأمريكيين على حافة الجوع، فيما يتبادل الحزبان الجمهوري والديمقراطي الاتهامات حول المسؤولية عن هذا الإغلاق، لكنهما يتفقان على أمرٍ واحد: استمرار تدفّق الأموال إلى الكيان الصهيوني، ولو على حساب معاناة شعوبهم.
لم أرَ أجبن من ساسة الغرب؛ يخشون إثارة هذا الموضوع خوفًا على مستقبلهم السياسي أو من أن تُلصق بهم تهمة «معاداة السامية»، وهم أنفسهم الذين يملكون قرار إشعال الحروب وتدمير العالم.
قرأتُ تقريرًا عن موظفة إغاثة فرنسية تعمل في منظمة أوكسفام، قالت لزميلتها إنها غادرت تحت حراسةٍ عسكرية بعدما حزمت حقائبها، وقبل رحيلها خاطبها أحد الجنود قائلاً: «لا تعودوا»... فتركنا الضمادات خلفنا.
تخيّلوا لو أنّ روسيا منعت دخول المساعدات أو طردت منظمة أطباء بلا حدود؛ لكُنّا شهدنا اجتماعاتٍ عاجلة في مجلس الأمن، وتصريحاتٍ نارية، وعقوباتٍ متلاحقة من كل اتجاه. لكن كما رأينا على مدى العامين الماضيين حين يكون الفاعل هو الكيان، يسود صمت القبور، وتغيب العدالة كما لو أنها لا تعني أحدًا.
هذا الصمت يثبت أن الناس ليسوا سواء، وأنّ القتل حين يصدر عن الأصدقاء يُقابَل بالتجاهل والتبرير. غير أنّ التاريخ ما زال يكتب، ولن يغفل عن تسجيل هذا العار. وسيأتي اليوم الذي يتحوّل فيه هذا الصمت إلى ضجيجٍ يصمّ الآذان، ضجيجٍ لا تستطيع كل سماعات العالم أن تحجبه. أدخِلوا المساعدات!