عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Feb-2021

عبدالهادي المجالي .. الدولة والرجل*فايز الفايز

 عمون

تحت عنوان "عبدالهادي المجالي .. الدولة والرجل" كتب الصحفي الاردني فايز الفايز مقالا في عمون عام 2011 متحدثا عن الجفاف السياسي.
 
واليوم مع رحيل عبدالهادي المجالي نعيد نشر مقالة الفايز..
 
....
 
أين رجال الدولة الذين يفتقدهم الناس؟ تحدثنا عنهم سابقاً، ولكن هناك منهم من هو موجود بيننا اليوم مع ندرتهم، وتعترضه أقزامٌ جددٌ يعرقلون حركة حياتهم السياسية فاختاروا إما السكون والسبات، أو أنهم يعملون من مواقعهم بقدر ما تتطلبه مهماتهم للخدمة العامة في الدولة، وإن سألنا أنفسنا لماذا وصلنا الى مرحلة الجفاف السياسي سنعود لتأكيد أن الدولة تأكل أبناءها، أو على الأقل تعضهم أو تكسر أجنحتهم، ونعود للسؤال السفسطائي هل الرجال يصنعون الدولة أم أن الدولة تصنع رجالاتها، أم أنها صناعة مزدوجة؟
 
هنا ودون غاية ولا عناية؛ علينا أن نتذكر العين المهندس عبد الهادي ابن عطالله المجالي رئيس مجلس النواب السابق والوزير ومدير الأمن العام ورئيس هيئة الأركان الأسبق، والذي يرقد على سرير الشفاء في أحد مستشفيات لندن لمتابعة العلاج الذي أصرّ كما فهمت أن يبدأه في مستشفيات عمان وعلى أيدي أطبائها النطاسيين، ولكن لكل طب هناك أخطاؤه، فقد كثرت الأخطاء الطبية كما كثرت الأخطاء السياسية لدى علية القوم من أهل الحكم، وكما انشغل الأطباء بمرضى آخرين، فقد انشغل الحاكمون بما يعتبرونه أهم من تفقد طابور رجالات الوطن وسماع رأيهم إن كان فيه حكمة ومصلحة حكم.
 
شخصياً، لا تربطني بأبي سهل علاقة وطيدة، رغم معرفتنا الطويلة به، ولم نتقابل بشكل منفرد إلا قبل أن يسافر سفرته الأخيرة والتي عاد فيها لعمّان لإجراء عملية جراحية مزدوجة، كان قد اقتبس من إحدى مقالاتي فقرات طويلة ليقرأها في الاجتماع العام لحزب التيار الوطني، وطلب أن نجتمع لتبادل الحديث، وسألته بصراحة وأجاب بصراحة الواثق، ثم زرته في المستشفى ولم أتمكن من رؤيته لأن المستشفى كان غاصّاً بالزائرين، وعلى مدار أيام مكوثه فيه والجموع الغفيرة تؤم المستشفى لزيارته، وعوداً على بدء، فلم أدخل يوماً في حياتي الى بيته أو أحضر مناسبة عند الرجل، وحتى اليوم أعرف على الأقل خمساً من الشخصيات السياسية البارزة ممن تختلف معهم كثيراً ولها أسبابها، ولكنهم أبدوا احتراماً كبيراً للرجل ويستذكرونه بالخير.
 
في الزيارة التي اجتمعنا فيها مع أنها لم تكن طويلة، أجاب عن أسئلتي الصعبة بصراحة الرجل المتعب من الصراع مع المجتمع السياسي في الأردن الدولة والأردن الحكومات، حتى قضية سكن كريم التي ثارت مؤخرا وحولت الى هيئة مكافحة الفساد للتحقيق في ملفها لوجود شبهات فساد فيها، تحدثنا عنها وحمَّلني رسالة لم تصل الى غايتها، وقال إنه مستغرب كيف ينقل الإعلام وبعض الأشخاص عنه أنه يعتبر القضية استهدافاً شخصياً مع أن القرار حق لرئيس الوزراء، وقال إنني طلبت منذ زمن بعيد التحقيق فيها..
 
أبو سهل رجل دولة من الطراز الرفيع، ولا يمكن أن نختلف على ذلك رغم أننا اختلفنا معه كثيرا، فقد قاد مجالس نيابية لسنوات طويلة، خدم فيها الدولة الأردنية والنظام السياسي والعرش الملكي، وخدم كثيراً من الوطن ومن أبناء الكرك وهذا واجب عليه صدع له، على رغم اختلاف البعض معه، وعدم رضاهم عن خدمته وهذا حق لهم أيضاً، ولكن حينما ننظر له كرجل دولة وطني عارك السياسة ووقف وقفات لا تنسى لخدمة بلده ودولته وأخلص لنظامه، نرى كم هو النظام السياسي الأردني بات بيئة حارقة للصور، وطاردة للموالين، ومراهنة على المتلونين، وحتى المجلس النيابي الحالي مع أنه يضم خيرة من رجالات الوطن، فإن الانتخابات السابقة جاءت بمن لا يستحق أن يجلس في مجلس بلدي نائي، ولكن للدولة في قراراتها شؤون.
 
أبو سهل اليوم يحتاج منا جميعاً أن ندعي له بالسلامة والشفاء العاجل، وله حق أن نتذكره دوما فهو ابن عشيرة ماجدة ومدينة خالدة، فهي الكرك الشماء التي أنجبت خيرة الخيرة من رجالات الوطن وأبطال الجيش الأردني، وقدمت جحافل من أبنائها في كوكبة الشهداء الخالدين الذين رووا بدمائهم ثرى الكرامة وباب الوادّ واللطروّن بل وفلسطين كلها، وقاتلوا على تراب الجولان المحتل "حتى الآن"، وحينما نسمع بالكرك أحياناً نختصر الزمن الجميل بعشائرها العزيزة ومنهم المجالي وأخوانهم وجيرانهم الكرام أهل المروءة والإقدام، الضاربون أطنابهم في صدر الوطنية وبطون الولاء والانتماء للوطن الأردن وللدولة المحمية بصدور أبنائها كما هو حال عشائر الكرك جميعهم، أهل المعشر الدافئ، والوفاء الأصيل، الصابرون على وجع الحاجة والضنك، المبتسمون دوماً في وجه هذا الوطن وأهله، الرافدون للدولة وجيشها والحكومات ومؤسساتها والمؤسسات التعليمية والنقابات والساحة السياسية بخيرة رجالاتها ونسائها.
 
عبدالهادي المجالي بلغ من العمر قدراً يجعله يتحدث عن تاريخ الدولة الحديث بما يفيد أبناءها الجدد، ويخبر المواطنين عن أسرار الحكم والحكومات، وكواليس الخطط والتخطيطات وأعمال العهد القديم والجديد، ولماذا يتم اختيار زيد اليوم وإقصاؤه بعد غد، وكيف جيء بعمّر في حلكة ليل ثم أطيح به في وضح النهار، اليوم يستطيع عبدالهادي باشا أن يفجر قنابل سياسية قد تهدم جدرانا كثيرة وتفضح "طوابق" أهل الحكم والسياسة ولكنه دأب دأب الرجال الكبار في وقارهم وحفظهم لعهدهم في الدولة فلم يفعلها وهو يحفظ السرّ لديمومة هيبة الدولة.
 
يحق لعبد الهادي المجالي أن يعلن عن عتبه لا عن غضبه على أخلاق هذا الزمان الذي علّم أهله أن يأكلوا رجالهم لحماً ويرموا بهم عظماً، وهو يدري أنه إن فعل أو قال كل ما يعلمه سوف يخلق حالة من التراجع لدى الكثير من الباحثين عن التقدم في سلك الدولة والخدمة العليا، وممن لديهم الاستعداد أن يحرقوا أنفسهم ليتدفأ عليهم أهل "المراكي" المزمنة، وحينها لن تجد في الدولة إلا من تسلقوها ممن رأينا من أهل الحظوة، ممن هم في مقام الأحفاد لعبدالهادي المجالي وعبدالرؤوف وأحمد عبيدات وأحمد اللوزي وبقية الرعيل الأصيل من أعيان وأشراف هذا الوطن الذي ينبت أبناؤه كبواكير القمح، حتى إذا صنعوهم أهلهم عنباً طيباً لذيذاً، أبى عليهم من أبى إلا أن يصنع منهم خمرا مسكِراً مُضيَعاً مشروباً مذموماً.
 
نستأنس باسم عبدالهادي المجالي حينما نتذكر تاريخ عشيرتهم الأبية الطيبة، فهم أهل فضل وحُلم، فقد كان هزاع المجالي وطنا في منزله وفي مقر رئاسته، وذهب شهيداً لأن هذا البلد غير محظوظ بالزعماء من الشيوخ الذين لا يعرفون الكراهية والمناطقية كما كان دليوان باشا وطناً في ديوانه، وكذا كان حابس باشا الذي أعطى مفاتيح الحياة لمن لا يستحقونها، ومات حياً في قلوب الناس.
 
ولأن الزمان ليس زمان هزاع وحابس ورفيفان ودليوان وكذلك ليس زمان "وصفي الأردن"، ولأن الدولة غير الدولة، والناس غير الناس، فسنتوقع من الكثيرين أن يكيلوا التهم للرجال دون سند ولا منطق، وكهذا تردت أخلاق الناس، لأنهم يرددون ما يسمعون ويتفلسفون بما لا يعلمون، ولو كانوا يعلمون المخفيّ، لعادوا الى سيرة آبائهم وأجدادهم الأولى من أخلاق الفرسان وحظوظ الشجعان دون الافتراء ولا الاستشياع على الناس دون تفكير ولا تدبير، فهذا لا يخدم سوى ديوك المناصب المحتكرة في المؤسسات العالية المبتكرة الذين يصيحون آخر الليل وأواسط النهار دون أن يبيضوا بيضة واحدة رغم "العلف" الذي أعلفهم إياه النظام والدولة، ولما لا ما دمنا دجاجاً نبيض لهم دون أن نكلفهم شيئاً؟ !
 
عموماً فإن الجميع يتمنى الشفاء العاجل والسلامة من كل أذى وسرعة العودة للعين عبدالهادي المجالي الى وطنه وبيته الذي استقبل كثيراً ممن أداروا ظهورهم بعد أن كانوا يحلمون برجل يبتسم في وجوههم، فعبدالهادي رغم الاختلاف معه فلا أظن أن أحداً يختلف عليه، بأنه الرجل، الرجل الذي بات كثيرا من الناس يفتقده، يفتقدونه في كل المواقع، وإن كان زعيماً لحزب تشكل ليضم شخصيات وطنية من كافة الأطياف، ليضع للوطن مكاناً بين الأحزاب الممتدة من الخارج، فقد حطم الكثير من القادرين مجاديف الرجل والحزب دون داع رغم الحديث والسعي نحو الإصلاح والانخراط في العمل الحزبي وفتح الباب أمام القوى السياسية للمشاركة في صنع القرار.. فلله نضرع أن يحفظ الرجل لأهله وأبنائه، وأن يلهم قومه وبني وطنه سداد الرأي ووضوح الرؤية، كي لا ينطبق عليهم المثل البدوي: "فارسهم مذبوح، وكريمهم مفضوح".