عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Sep-2025

هوس النخبة الأمريكية*محمد صابرين

 الدستور

 لا يبدو أن النخبة الامريكية بإمكانها أن تتخلص من هوس التدخل العنيف، ومحاولات تغيير الأنظمة، والمجتمعات وفقا لرؤية ومصالح الدولة العميقة في الولايات المتحدة. ورغم عشرات التجارب الدموية الفاشلة فإن هذه النخبة المتبلدة لم تدرك بعد أن «الهندسة الاجتماعية العنيفة فكرة غبية». وأغلب الظن أن هؤلاء المتعجرفين في واشنطن لا يريدون أن يقتنعوا بأن تجاربهم المريرة من فيتنام والعراق وأفغانستان وليبيا،وسياسة الفوضى الخلاقة قد فشلت فشلا ذريعا، و بثمن باهظ، وأن «الحروب التي لا نهاية لها» لا توصل إلى شيء سوي الخراب والدمار وموت الأبرياء.
وفيما يبدو الآن ثمة أسباب قوية تدفع للاعتقاد بأن الحرب والفوضى أمور مطلوبة لذاتها، وأن اللوبي العسكري الصناعي المالي الأمريكي يتكسب من الحروب، وتنتعش مصالحه في وجودها.
 وهنا نقدم رؤية من داخل مؤسسة الحرب الأمريكية، والتي لاتدعم للتفاؤل، والبداية بانتقاد ضابط مشاة أمريكي سابق لاستراتيجية الولايات المتحدة السخيفة في أطول حرب عبثية خاضتها في أفغانستان.
 وفي مقالة مهمة يكتب دان فيشر في مجلة نيوزويك تقريرا مريرا عن دروس الحرب، بقوله «قبل 4 سنوات تقريباً انهارت الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة في أفغانستان بسرعة، إيذاناً بنهاية جهد استمر عقدين من الزمن لتغيير البلاد. وقد مثّلت الأيام الأخيرة للتدخل الأمريكي رمزاً غريباً للمأساة التي تكشفت حتى تلك اللحظة».
 فقد سقط الأفغان المتشبثون بطائرة أمريكية من السماء إلى حتفهم. وأسفر تفجير انتحاري عن مقتل 13 جندياً أمريكياً و170 أفغانياً. وقتلت طائرة أمريكية بدون طيار 7 أطفال فيما وصفه الجيش الأمريكي، على نحوٍ غير كفؤ، بأنه «ضربة عادلة». وحلّ محل النوايا الحسنة والموقف الأخلاقي الرفيع إحراج وطني.
ويكشف فيشر عن خدمتُه في أفغانستان كضابط مشاة، ولاحقاً، العمل في إدارة مركز أبحاث حكومي أمريكي يُوثّق دروس التدخل الأمريكي. ورغم غزارة التحليلات، ما زلنا لا نصل إلى الاستنتاج الصحيح من أطول حروبنا.
 ويدعونا فيشر لإلقاء نظرة على بعض العبارات المبتذلة، وإن كانت مثيرة للريبة من الناحية التحليلية، والتي تُعتبر من الحكمة التقليدية السائدة في مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن العاصمة وهي «لم تكن لدى الحكومة الأمريكية قط استراتيجية متماسكة لما كانت تسعى إلى تحقيقه». ويؤكد فيشر أن الاستراتيجيات الأمريكية صحيح كانت في كثير من الأحيان غير متماسكة. لكن أي استراتيجية، مهما بلغت من البراعة، لم تكن لتتمكن من تحقيق هدف أمريكا الطموح السخيف لأفغانستان،وهو بناء دولة أفغانية مستقرة وديمقراطية، وخاضعة للمساءلة وتمثيلية ومراعية للفروق بين الجنسين.
 ويطالب فيشر النخبة بأمر بسيط بقوله «لنفكر في مدى بُعد تطلعات الولايات المتحدة للحكم الديمقراطي عن الواقع. فقد شابت كل انتخابات أفغانية اتهامات بالتزوير؛ ولم يُحسم السباقان الرئاسيان الأخيران إلا باتفاقيات تقاسم السلطة التي توسطت فيها الولايات المتحدة في اللحظة الأخيرة؛ وشغل أمراء حرب بارزون مدانون بانتهاكات حقوق الإنسان مناصب عليا. كما سمح أحد نواب الرئيس بموت العشرات من سجناء طالبان اختناقاً في حاويات شحن.»
ومن ناحية، كنا بحاجة إلى أمراء الحرب هؤلاء للمساعدة في دحر طالبان. وبعد ذلك، ضمن إدراجهم في نظام ما بعد عام 2001 تمثيلًا متعدد الأعراق في الحكومة الأفغانية. ومن ناحية أخرى، أجّج فسادهم المفرط استياء شعبياً وأجّج التمرد. ولم يكن من الممكن أن يرسّخوا أساساً راسخاً للديمقراطية التي تخيلها صناع القرار في واشنطن.
 ويسخر فيشر من مقولة أحد المستشارين العسكريين بأن « فترات الخدمة القصيرة منعت الأفراد الأمريكيين من معرفة مناطق عملياتها، والأفغان المقيمين فيها معرفة حقيقية.» وهذه الملاحظة صحيحة تماماً، ولكن من المشكوك فيه أن أي جندي أمريكي منتشر كان قادراً على جمع معرفة كافية لإحداث فرق حقيقي. ويعقب بأن مكافحة التمرد الفعالة تتطلب «مستوى من المعرفة المحلية يفوق ما أعرفه عن مدينتي.»
 ولا شك أن تجربة القتال ضد طالبان من خلال معرفتي، فإن فترة الخدمة القصيرة للجنود، والموت العنيف على يد آلة القتل الأمريكية، قد تسببت في اضطراب كبير في صفوف التمرد، ولكن ومع ذلك، انتصرت طالبان بحسم. ولا يوجد دليل يُذكر على أن فترات الخدمة الأطول كانت ستغير هذه النتيجة.
 وفي الواقع لم ننصت بما فيه الكفاية لما يريده الأفغان. وبعد سنوات من الصراع، برزت مشكلة مختلفة، وهي أنه لم يكن الإنصات للأفغان أفضل من الإنصات لأنفسنا.
وخلال الثلث الأخير من الحرب، شغل أشرف غني، وهو تكنوقراطي سابق في البنك الدولي تلقى تعليمه في الغرب، منصب رئيس أفغانستان. وأشرف غني كان أمريكياً في السابق، وألّف كتاباً عن كيفية إصلاح الدول الفاشلة، وهو عمل لا يُضاهيه في غطرسته إلا تقرير أمريكي مبالغ فيه بعنوان «دليل المبتدئين لبناء الأمة»، وشارك في تأليفه شخصيات بارزة أخرى من عالم الفكر الأفغاني. وليس من المستغرب أن يكون غني ومساعدوه التكنوقراط في الحكومة الأفغانية على وفاق تام مع نظرائهم الأمريكيين، متظاهرين بأن كل شيء كان على ما يرام، في الأسابيع والسنوات، التي سبقت سقوط النظام المدعوم من الولايات المتحدة.
وفي ظل هوسنا بـ»تحليل» ما حدث في أفغانستان، نخاطر باستخلاص استنتاجات مُرضية لكنها خادعة للذات.
 إن البيروقراطيين والتكنوقراط، الذين يشكلون مجتمع التحليل المُركّز على واشنطن العاصمة،والذي أنتمي إليه، لا يريدون إلا أن يصدقوا أن « التدخل في شؤون الدول الأخرى سمة، وليس عيباً، في السياسة الخارجية الأمريكية. وبتركيزهم على استراتيجيات أفضل، ومعرفة ثقافية أوسع بدلاً من التركيز على التدخل نفسه، يُبقون هذه الرواية حية.»
 ويطالب فيشر فيما يشبه النداء بلا امل « لا تُسايروهم. في النهاية، الدرس الأكثر مرارة من أفغانستان، والأكثر بديهية، أن الهندسة الاجتماعية العنيفة فكرة غبية.»
ويبقى أن قادة نظام الفصل العنصري في إسرائيل هم من القلة النادرة التي تشارك وتغذي هوس النخبة الامريكية بالتدخل العنيف في الدول الأخرى، ولا يبدو هناك سوى أمل ضئيل يتعلق بعلاج واشنطن من هوسها سوي بثمن مرير في أحدي مغامراتها، أو يتحرك الرأي العام الأمريكي ويقول للدولة العميقة لقد سئمنا من «الحروب العبثية «.