الغد-عزيزة علي
تقول الباحثة والناقدة الفلسطينيّة الدكتورة كوثر جابر قسوم: "إن سميح القاسم أحد الأدباء الذين عودوا القارئ على تعدد المواهب وتنويع الفنون الأدبية في أعماله، فإلى جانب غزارة إنتاجه الشعري، كتب المسرحية والرواية والدراسة، إضافة إلى كتاباته ومقالاته الاجتماعية والسياسية التي سجلها ضمن عمله في الصحافة، كذلك خاض القاسم تجربة الترجمة، حيث ترجم العديد من القصائد من الإنجليزية إلى اللغة العربية". وذلك في كتابها "الشاعر في إهاب النثر: دراسات في المنجز النثري لسميح القاسم"، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت/ عمان،
وتقول قسوم في مقدمة كتابها: "جاء الكتاب تزامنًا مع الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم، وهذه الدراسة تسعى إلى إلقاء الضوء على الفنون الأدبية النثرية التي جاد بها".
كما قامت بدراستها دراسة نقدية تحليلا ومضمونا، وجاء هذا البحث في أربع دراسات متوالية؛ الأولى والثانية في استعراض مؤلفات القاسم الأدبية والنثرية وتبيان أشكالها ومضامينها وخصائصها العامة، أما الثالثة والرابعة، فجاءتا في تحليل نتاجين خاصين من نتاج القاسم في مجال الرواية "رواية إلى الجحيم أيها الليلك" التي نشرها العام 1977، وكتاب "الإدراك"، الذي نشره العام 1996، وتم تناولهما تحليلا نقديا متكاملا: فالرواية، من حيث جغرافية المكان ودلالاته، وكتاب الإدراك، من حيث إنه نص عابر للأنواع ويحتمل قراءات أدبية متعددة.
الكتاب جاء في أربعة فصول، الأول بعنوان "سميح القاسم والدر المنثور"، وفيه أوردت المؤلفة دراسة استعراضية شملت جل ما كتبه القاسم في النثر الأدبي، من خلال الإجابة عن الأسئلة الواردة: لماذا لجأ القاسم إلى النثر وقد ذاع صيته كشاعر بارع؟ ما هي الإبداعات النثرية التي سطرها القاسم وما هي مضامينها؟ هل ثمة قواسم مشتركة بين شعر سميح القاسم ونثره؟ وهل يوازي القاسم الناثر سميح الشاعر؟.
أما الفصل الثاني وهو بعنوان "خصوصية اللغة في نثره الأدبي"، فتقول قسوم إنها عرضت فيه خصائص اللغة من خلال أعماله الأدبية النثرية وخاصلت إلى أن لغة القاسم في كتاباته النثرية والأدبية تندرج ضمن مستويين: الإبلاغي؛ والتخيلي/الشاعري، في المستوى الأول تتخذ اللغة النثرية طابعا وظيفيا، حيث يبدأ الكاتب معنيا بتوصيل المضمون بوضوح وتأكيده أكثر من عنايته بالتشكيل الخاص للغة.
ويظهر ذلك في مسرحياته النثرية، والتي من خلالها يواكب القاسم موضوع الصراع العربي الإسرائيلي في الداخل، بقدر قليل من العدة الجمالية والبلاغية، ومن خلال هذه المسرحيات، يمكن لنا ملاحظة الجانب الوظيفي والسياسي للغة، مثل، كيف رد الرابي مندل على تلاميه؟ في العام 1973، الأبن العام 1974، المغتصبة 1975، وغيرها.
أما الروايات الأوتوبيوغرافية الثلاث وهي: "إلى الجحيم أيها الليلك"، التي كتبها في العام 1977، رواية "الصورة الأخيرة في الألبوم"، في العام 1980، "وملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يوميا"، العام 2011، حيث تميزت هذه الأعمال بأنها ذات أسلوب شاعري، وبعض هذه النتاجات اعتمدت التكثيف الفكري واللغوي، ومن ميزات اللغة عند القاسم كذلك السخرية، إذ يمتلك نزعة تهكمية ساخرة في كتاباته النثرية، خاصة ما جاء به في أعماله الإبداعية المبتكرة مثل، "كولاج وليزر(أفكار ورؤى)"، وفي كتاب "الإدراك"، الذي نشره في العام 2000.
وترى المؤلفة، أن القاسم يستوحي لغته ومعانيها من التراث الإسلامي التوحيد على مختلف مذاهبه واتجاهاته، كما يبدي امتلاكا متمكنا للصنعة اللغوية والبلاغية. أما سيرته الذاتية، فـ"إنها مجرد منفضة"، وهي رواية تسجيلية كتبها العام 2011، وتعتمد على الخبر والتوثيق بالأساس، ومع ذلك، فإن عنصر التخيل لا يغيب عن الرواية، بل هو من أهم الأسس التي تقوم عليها الرواية.
وفي الفصل الثالث الذي اعتمدت فيه قسوم على تحليل جغرافية السرد في رواية "إلى الجحيم أيها الليلك"، يلعب المكان دورا محوريا في بنية السرد ودلالاته، تتوزع الأحداث على ثلاثة فضاءات رئيسية هي: الفلسطيني "الرامة، مخيم اللاجئين، القدس المحتلة"، الإسرائيلي "حيفا، تل أبيب"، والشيوعي "موسكو"، مشكلة بذلك خريطة رمزية لهوية الراوي المركبة، يتجلى المكان في الرواية كحامل لإيحاءات ورموز تعكس الواقع المعيش للفلسطيني داخل إسرائيل، متجاوزا دوره كخلفية جغرافية ليصبح عنصرا فاعلا في تشكيل الشخصيات وتطور الأحداث. وتعتمد دارسة المكان في الرواية على تحليل حركة الراوي ضمن هذه الفضاءات وتأثيرها على بنيته الاجتماعية والنفسية، إضافة إلى استكشاف الأبعاد الفنية والرمزية.
وحللت المؤلفة في الفصل الرابع كتاب "الإدراك"، كنص عابر للأنواع، حيث جمع أجناسا أدبية عدة معا في لغته وأسلوبه، وهو كتاب كما تقول عنه قسوم "اجتماعي فلسفي ديني"، تتجلى قيمته في التوفيق البارع بين التراث والتجديد. وأسقطت عليه أربع قراءات "قراءة صوفية، دينية تحاكي الأسلوب القرآني، قراءة كمقامات ورابعة كخطب"، كما بينت قدرة القاسم في تجديد اللغة والمعاني مع الحفاظ على أصوله التراثية. وهو قمة ما وصل إليه القاسم في النثر الفني.
وتشير قسوم إلى أنها تطرقت إلى أعمال القاسم النثرية والأدبية فقط: أما ما يندرج ضمن كتاباته الصحفية والتوثيقية من مقالات ومداخلات وزوايا نقدية، فلم تتطرق إليه، كذلك تنفرد كل دراسة بهوامشيها وحواشيها ومصادرها البيبلوغرافية، حيث يمكن للقارئ الاستفادة منها بشكل مستقبل.
وتوضح قسوم أنها أضافت لبنة أخرى في المعمار النقدي والتحليلي التابع لتراث الشاعر والأديب سميح القاسم، خاصة أن الساحة النقدية عنيت بتناول منجزه الشعري، وأن القاسم عرف من خلال مشروعه الشعري أكثر من منجزه النثري. إن النثر الذي ضرب باتجاهه الشاعر الفلسطيني القاسم، نوع من الخطاب المعرفي الذي تستيطع معه الذات أن تكون أكثر إنسانية وأكثر فهما للواقع وصاحبة رؤية مستقبلية ونبوءة واثقة.
وتنوه المؤلفة إلى أن ما استعرضته في هذا البحث ليس إلا طواف مختزلا في رحاب تجربة شاسعة عاشها القاسم بين جدلية الجرح والبلسم، وثنائية الأمل واليأس. هذا الشاعر ممن جعل الكتابة في الحالة الفلسطينية شعرا كانت أو نثرا فعل وجود، ونخاله مع ذلك لم يرض ولم يقنع؛ فرغم كل ما قاله وكتبه، وبعد أكثر من ستين مؤلفا، هو من قال "لم أقل كلمتي الأخيرة بعد".