العمر .. ما بين الـ ٦٧ ومعانيها الكابوسية*أحمد سلامة
عمون
لا اتذكر انني كتبت في مناسبة، اجمع الناس على اعلاء قدرها مثل العرس، ومثل الحب ومثل الحزن، اعني مناسبة عيد الميلاد، ودوما كان يغشاني غلالة من صمت يشبه الذهول ويباعدني ذلك عن ضوضاء الاحتفاء بهذه المناسبة..
اليوم شيء مختلف جدا وقع على سلوكي رغم ان اليوم ذكرى ولادتي لكن امرين فرضا علي ان اكتب واخرج عن مالوف ما درجت عليه النفس..
منذ الصباح الباكر، تلقيت رسالة الكترونية من ولدي الاصغر الحبيب والغالي المقيم في البحرين (فراس / ابو طلال) باللغة الانجليزية.. قطعة عميقة حد الفلسفة تحت عنوان (Dear Father) والرسالة قطعة فكرية فريدة تجري تحليلا فلسفيا في العلاقة بين كوابيس الطفولة وتحقيق طموحات المستقبل..
وفراس يشاطرني ذات المناسبة فوالدته اصرت ان تخرج عن مألوف الهدايا في هكذا مناسبات ومنحتني اقدس هدية في الكون في عيد ميلادي قبل 31 عاما كان فراس هديتها..
ومن وحي قصة محاولة الربط بين الكوابيس الطفولية، وشظف الحياة وما يدركه المرء من مكاسب ونعم في الحياة قررت ان اختار بعض كوابيس طفولة لاشارك القراء بها هذا اليوم
الامر الثاني.. رقم ٦٧ فلقد انهيت اليوم اقبح ذكرى كابوس من عمري (٦٧) فهذا الرقم هو شؤم كله ضاعت فيها الاوطان، وفقدنا الامان
ورأينا اكثر شعب بلا رحمة وبلا اخلاق وبلا ثقافة مستعمر حتى (فالبهودي) طوال حياته اما مشردا او تابعا او مقموعا وكان من قهرنا وسوء حظنا ان تلقينا كل هذه العقد ومركبات النقص عنده بفيض من احتلال جاس خلال الديار وبالفعل كانت اصعب سنة مرت علي في العشرين سنة الماضية السنة التي بلغت فيها الـ ٦٧.. أي هذه السنة التي مضت
على اول السطر اكتب.. اولئك القوم فرع من حزب (المعتزلة الفكري) اسمهم (اخوان الصفا وخلان الوفا) من تركوا لنا تراث اسرار الحياة ومحاولة فهمها عبر معجزة الرقم لقد كانوا مولعين بالتنجيم والترقيم والفلسفة واعترف ان استاذي في الفلسفة الاسلامية الدكتور المبهر فهمي جدعان اطال الله في عمره هو من ارشدنا اول لحظة وعي هناك في الجامعة الاردنية الى خطورة واهمية اخوان الصفا وخلان الوفا
والارقام تفتح النوافذ على الخير والبركة وانني متفائل جدا لانني انهيت رقم (٦٧) من عمري ودخلت الى عالم الـ (٦٨) فالاول قتلتنا مغامرة عبد الناصر رحمه الله وضاعت الاوطان وضعنا معها اما رقم الـ (٦٨) فهو رقم يبشر بالكرامة كلها
اكتب عن كوابيس مضت وجعلت منا قصة تحد وخناجر في وجه الاحتلال وحين انتقلنا للجزء الباقي من الوطن لا نزوحا ولا لجوءا بل انتقال السعي لتحويل الكوابيس بالعلم الى طموحات وطنية نقاتل باقلامنا عن وطن هاشمي اردني مجيد لا يشبهه وطن في الكون كله وهو كحلة عين العرب اجمعين
اكتب.. الكابوس الاول،
كنت في العاشرة من العمر حين رأيت جنود الجيش العربي ينقبون في كل ذرة تراب في (بديا) بحثا عن قاتل غامض اختفى اغتصب فتاة وقتلها ولم يعرف له اثر، كانت الموؤدة هي (مريم بنت جمعة) صبية رقيقة يوشح ملامحها سمرة تزيدها فتنة بنت اللاجئ الغامض (جمعة) جاء بعد النكبة الى بديا مع اسر لم تزد عن الخمسة لان كل اللاجئين الذين لاذوا بسنام الجبال في مغاريب نابلس قد تم نقلهم الى مخيم (بلاطة / عسكر) قرب نابلس، من هذه الاسر الخمسة كان جمعة رحمه الله قد سكن في مسجد قديم مهجور وسد نوافذه المشرعة على برد المتوسط بحزم حطب استجلبها من بساتين الزيتون المجاورة وعاش مع اسرته حياة ضنك ماثلة…
وفي احدى ليالي الزمهرير التي تشبه هذه الايام طغى خبر مقتل واغتصاب بنت جمعة في منطقة غربية مجاورة للبلدة اسمها (البدوري) حيث وجدت مريم مضرجة بالدم مرتين دم الاغتصاب ودم الذبح من الوريد الى الوريد
وطار خبر السوء مثل النار بالهشيم.. وفجأة صارت المنطقة كلها غابة من بنادق وخوذ جنود لجيشنا العربي متجهمين حزانى وينقبون في المنقب يريدون القاتل.. والجيش العربي هو اخر جيش من جند الله يغضبون بعروبة للعرض…
ثلاثة ايام لم يتم العثور على القاتل وطويت الصفحة، بعد عدة من سنين عرف القاتل كانت جماعة من لواء النحس غولاني او ما يشبهه
قد اغتصبوها وذبحوها لان الوالد جمعة كان قد اوجع اليهود كثيرا في كثرة (تسلله) خلف خطوط الوطن المسلوب فثأروا منه.
كان اغتيال مريم وبرد تشارين وغضب الجنود اول صورة مهدت لسنة ٦٧..
الكابوس الثاني،
اواخر ايار انتشر الجيش العربي يحفر الخنادق على مداخل بلدتنا التي تبعد عن كفر قاسم خط الحدود بين الارض المغتصبة والارض الناجية ٣ كم فقط كنت في المرحلة الاعدادية صرت اعي كل شيء ولقد رافقت عمي ابو الحكم بفرح عارم ومعه عمي ابو علي والتقيا هناك بعمي ابو صبحي على مدخل وادي الشيخ علي حيث الجنود يحفرون وضابط اسمر البشرة فاتن برتبة مقدم يتفقد جنوده كان ذاك المقدم هو بطل معركة وادي التفاح لاحقا في نابلس (صالح الشويعر) يرحمه الله..
لن ادعي الحكمة باثر رجعي لكن صالح الشويعر كان واجما ولما الح عليه العم ابو الحكم بضرورة ان يشرفنا على عشاء مسخن، قال له العم ابو صبحي حاولت قبلك ولم يلب عطوفته واجاب صالح الشويعر ان شاء الله نخلص من هالمواجهة على خير ومنتشرف..
عمي فاجأ صالح بسؤال غير عسكري "لشو يا بيك بتحفروا خنادق هون؟ يعني لا سمح الله اليهود بدهم يوصلوا لهون ؟!"، اجاب صالح الشويعر بهدوء: "يا عمي الحج في الحروب كل شيء جائز"، واصيب عمي بصدمة وذهول وبعد عدة اسابيع كان اليهود يغنون في طرقات البلدة وكان صالح الشويعر يواجه قدره محاولا بكل بطولة لا يشبهها بطولة تأخير تقدم العدو غرب نابلس لقد استشهد ذلك البطل الاردني بعذوبة وشهامة وحق له ان يبنى له مقاما كما فعلت له لاحقا مدينة البطولة والفداء..
كانت رؤية اليهود عام ٦٧ اقبح كابوس واكثر مرارة وهم يحتلون باستباحة الجائع كل شبر في عروقنا.. إن من يرى اليهودي بالعين المجردة
محتلا ومتجبرا ويظن بتفوقه الازلي يعرف ماذا تعني وما دلالات معركة الكرامة عام ٦٨.. كانت الكرامة اول الصد واول الرد واول لا اردنية بعثها الحسين وليس احد سواه..
إن صدمة الهزيمة قد ايقظتنا والى الابد وانا ادخل متفائلا عامي الـ ٦٨.. استذكر كل مباهج الحياة التي بدأت بكوابيس الـ ٦٧..
لقد نجا الاردن في ضفته الشرقية من كابوس الاجتياح في الكرامة وكان ذلك بسالة الدم وشهامة القائد وبتوفيق قبل ذلك من الله سبحانه وتعالى جلت قدرته
ولقد نجا الاردن بعدها من حرب اهلية كادت ان تفرق بين الاخ واخيه لكن عروبة الاردني وهاشمية الملك العابرة للاجناس والديانات والالوان والاعراق والجغرافيا ابقت وفي غضون عدة اسابيع على الاردن (حمى هاشميا) يسند الضعيف ويقاتل عن وحدته
ونجا الاردن من كل ما بعد ذلك قد وقع وتجاوزنا ذلك كله الاردن اليوم بلد الحرية المقبولة وبلد الفقر المحتمل الذي يذيبه معنى (الاسرة الواحدة) وبلد الطموحات الكبرى وبلد الكهرباء وإن كانت تعرفتها مرتفعة لكن في الوقت الذي يفتقد فيه اشقاء كانوا يرون في انفسهم اكفاء منا الكهرباء والماء والدولة فاننا هنا نقول على ارضنا ما يجدر بالمباهاة وما يستحق الابقاء عليه والتمسك به..
اختم وانا اعبر الى العام الـ ٦٨ عام التفاؤل بالكرامة تتجدد بعون الله
كثيرون في الاردن جديرون بالشكر والثناء على ما نحن عليه جيش مخابرات امن حكومات رجال اعمال محترمين ساسة صاغة اساتذة لكنني
ادعو الله ان يحرس وان يحمي وان يكون دوما معه هذا الهاشمي النبيل سيدنا ابو الحسين الذي تحمل وكفى واوفى هذا السبط النبوي
الذي تسلم الامانة مملكة بهية وفاتنة وعبر فينا ونحن كلنا معه الانتفاضة الثانية واختلال العراق والكساد الاقتصادي والربيع العربي ومعركة الصراع على سوريا وكانت في الحضن ومواجهة داعش البغيضة وكانت باهظة الثمن وبد ذلك جائحة الفيروس اللعين..
وها نحن عن حبنا لوطننا نغني وولاؤنا لمليكنا نناجي ولاردننا نكرر (اردن يا اردن يا حبة عيني)..