خطة ترامب لغزة.. واقع أم مسرحية؟
الغد
جون بولتون* - (الإندبندنت) 2025/10/6
يرى مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جون بولتون، أن خطة ترامب لغزة تفتقر إلى التفاصيل العملية وآليات التنفيذ الواضحة، وأنها تحتوي على ثغرات يمكن لإسرائيل الاستفادة منها متى شاءت. وهكذا، تجد "حماس" وإيران نفسيهما في موقف سياسي غير مواتٍ منذ البداية، ولذلك يبقى احتمال انهيار الخطة قائماً، وهي تجربة مألوفة في تاريخ جهود السلام في الشرق الأوسط.
أعلن دونالد ترامب أن خطته للسلام في الشرق الأوسط تمثّل "يوماً عظيماً، عظيماً جداً، يوماً جميلاً، وربما أحد أعظم الأيام في تاريخ الحضارة". وبعد أربعة أيام من ذلك، أعلنت حركة "حماس" استعدادها لإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين المتبقين. ورد ترامب بالقول "إن ’حماس‘ أظهرت أنها مستعدة لسلام دائم"، مضيفاً: "يجب على إسرائيل أن توقف القصف فوراً حتى نتمكن من إخراج الرهائن بأمان وسرعة!".
لكنّ الواقع سرعان ما فرض نفسه. أولاً، لم تكن "الخطة" التي وافق عليها القادة العرب بعد لقائهم ترامب في نيويورك خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة هي نفسها الخطة التي أعلنها ترامب لاحقاً. فقد أقنع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الرئيس ترامب، بإدخال تعديلات عديدة تصب في مصلحة إسرائيل قبل اللقاء الذي جمعهما في البيت الأبيض الأسبوع قبل الماضي.
وعلى الرغم من أن الدول العربية كانت، وفقاً للتقارير، "غاضبة بشدة" من تلك التعديلات، فإنها آثرت إعلان تأييدها العلني للخطة لتفادي عرقلتها والسماح بمضيها قدماً. غير أن تنفيذها سيحتاج إلى أسابيع -وربما إلى أشهر- من المفاوضات قبل أن يتحقق أي تقدم فعلي، حتى في حال جرى تبادل الرهائن سريعاً. وفي أي مرحلة يمكن أن تصل هذه المفاوضات إلى طريق مسدود، كما حدث مراراً في مسارات السلام السابقة. وحتى بعد التوصل إلى تفاهمات حول القضايا الجوهرية، سيبقى احتمال انهيارها قائماً، وهي تجربة مألوفة في تاريخ جهود السلام في الشرق الأوسط.
ثانياً، تبدو الخطة طموحة في ظاهرها، لكنها تفتقر إلى التفاصيل العملية وآليات التنفيذ الواضحة. فعلى سبيل المثال، ركز المعلقون على ما اعتبروه تنازلاً إسرائيلياً في "البند 19" المتعلق بقيام دولة فلسطينية. غير أن النص ذاته مشروط ومليء بالتعقيدات إلى حد يفقده جديته ومضمونه، ويجعله في النهاية نصاً عبثياً، إذ تنص الخطة على أنه "بينما يتقدم تطوير غزة" ويجري تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية "بأمانة والتزام"، عندها "قد تتوافر في النهاية الشروط التي تتيح مساراً موثوقاً نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة". وكما كان يقول الرومان القدماء: الحذر واجب عند الشراء.
ثالثاً، وهو الأمر الأهم، لم يكن إعلان "حماس" الذي أصدرته يوم الجمعة قبولاً غير مشروط بالخطة، بل كان صيغة "نعم، ولكن"، والتي تضمنت شروطاً قد تعرقل تنفيذ الخطة، ومساعي ضمنية لإعادة صياغتها كما طُرحت. وفي المقابل، كان من السهل نسبياً على إسرائيل قبول خطة ترامب من دون شروط مماثلة، ليس فقط بسبب التعديلات التي منحها ترامب لنتنياهو، بل لأن الخطة، كما كُتبت، تتضمن كثيراً من المسارات أو "الثغرات" التي يمكن لإسرائيل الاستفادة منها متى شاءت. وهكذا، تجد "حماس" -وإيران، الداعم الرئيس لها في أنشطتها الإرهابية- نفسيهما في موقف سياسي غير مواتٍ منذ البداية. فقد منح ترامب نتنياهو صراحة بركته ليفعل ما يجب فعله، ودعمه الكامل لإتمام مهمة تدمير التهديد الذي تشكله "حماس". ولذلك لم يكن غريباً أن تجد إسرائيل سهولة في قبول الخطة.
أخيراً، لدى ترامب ميل إلى إعلان النصر حين يخدمه التوقيت، كما حدث عندما أصدرت "حماس" ردها الأولي. فقد اعتبر الموافقة الجزئية على احتمال إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين أمراً منجزاً، ثم أعلن أن الاتفاق برمته قد نجح. وقد فعل الشيء نفسه تقريباً في حزيران (يونيو) الماضي، بعد أن ألقت القاذفات الأميركية من طراز "بي-2" قنابل خارقة للتحصينات على منشآت برنامج إيران للأسلحة النووية. في ذلك الحين أعلن النصر في حرب الاثني عشر يومًا التي شنتها إسرائيل ضد إيران، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار. لكن الواقع هو أنه كان على الولايات المتحدة وإسرائيل مواصلة الضربات. فعلى الرغم من أن الهجمات ألحقت أضراراً كبيرة بمنشآت إيران النووية، فإنها لم تدمرها بالكامل.
كانت اللحظات التي اختار فيها ترامب تهنئة نفسه محطات بارزة فعليًا، لكنها لم تكن نتائج نهائية. وينطبق هذا على نحو خاص على مفاوضات الرهائن، التي شكلت هاجساً لترامب منذ ولايته الأولى. وفي مطلع ولايته الثانية، نجح في التوصل إلى صفقة تم الإفراج بموجبها عن عدد من الرهائن (وجثامين من لقوا حتفهم) عن طريق إرغام إسرائيل و"حماس" على قبول خطة كانت قد تفاوضت عليها أساساً إدارة بايدن. غير أنه بعد تنفيذ عملية تبادل الرهائن في "اتفاق بايدن"، انهار ما تبقى من الاتفاق الذي كان يهدف إلى تسوية شاملة للنزاع بين إسرائيل و"حماس". وهناك كل ما يدعو إلى الاعتقاد بأن السيناريو نفسه سيتكرر في هذه المرة أيضاً.
تثير قضية الرهائن مشاعر قوية وصوراً مؤثرة. لكن النزاعات المعقدة بين إسرائيل وإيران ووكلائها المسلحين، خصوصاً "حماس"، هي أشد صعوبة على المعالجة إذا كان الهدف هو التوصل إلى حل مستدام طويل الأمد، وليس مجرد تفاعل عابر على وسائل التواصل الاجتماعي.
من الواضح أنه في هذه الأيام الأولى بعد إعلان ترامب ونتنياهو، لا ترغب إسرائيل ولا "حماس" في أن تُوصم علناً بأنها "العقبة أمام السلام". وقد شهدنا ما يكفي من السيناريوهات المماثلة في السابق لنعرف أن معظم ما نراه ونسمعه ليس سوى أداء مسرحي. والأهم من ذلك كله هو أن صمت إيران خلال الأسبوع الماضي كان مدوياً. وحتى تُعلن طهران دعمها، إذا فعلت في أي وقت، فإن الخطة ستظل مجرد حبر على ورق.
إن خطة ترامب المؤلفة من 20 بنداً غامضة ومعقدة، وهي تبالغ في طموحها، وقد تنهار ببساطة تحت وطأة تعقيدها الذاتي. حين انتهت الحرب العالمية الأولى، أصدر الرئيس الأميركي وودرو ويلسون "14 نقطة" شهيرة لوضع أسس السلام العالمي. وفي ذلك الوقت، رد عليه رئيس الوزراء الفرنسي، جورج كليمنصو، قائلاً: "14 نقطة؟ هذا كثير!". والآن، سنرى ما إذا كان ترامب سينجح في ما فشل فيه ويلسون.
*جون بولتون John Bolton: مستشار أسبق للأمن القومي الأميركي