عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Nov-2025

أن تفكر كفلسطيني..! (16)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

"نحن الهوياتية"، و"نحن الفصائلية" (1)
في مقطع فيديو متداول لحلقة من برنامج حواري، يوضع البروفيسور اليهودي الأميركي الشهير نورمان فنكلستاين Norman Finkelstein، أستاذ دراسات الهولوكوست، في مواجهة شخصين عربيين، أحدهما أميركي لبناني والآخر "ناطق رسمي" فلسطيني، كما يصف نفسه. وبينما يركز فنكلستاين كل الوقت على الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان في غزة ويضعها في السياق التاريخي للصراع الفلسطيني مع المشروع الاستعماري الصهيوني، يركز العربيان على إدانة المقاومة في بلديهما وتحميلها المسؤولية عن كل المصائب، بما فيها المجازر التي يرتكبها الكيان ضد المواطنين العرب في لبنان وفلسطين منذ قرن، ويحتفيان بتجريد مواطنيهما من السلاح.
 
 
الحوار، بغض النظر عن تفاصيله، مثير للحفيظة حقًا. ثمة يهودي أميركي مطلع يشرح المقاومة كرد فعل مشروع على السلوك الاستعماري، وثمة عربيان يضعان مواطنيهما في موقف منشئ الصدام ويقترحان أن الحل هو القضاء عليهم وتحييدهم، لكي يحل السلام– والديمقراطية الأميركية، حسب اللبناني. ويضطر البروفيسور المندهش إلى تفسير موقفهما بأنه من مقتضيات "الوظيفة" التي يقبض المرء أجره لقاء أدائها. ثم يذكّر الفلسطيني الذي يتحدث بثقة باسم الفلسطينيين جميعًا بأن الجهة التي يمثلها والتي تفسر الأمور على طريقته– أو يفسر هو على طريقتها- لا تتجاوز نسبة دعمها حسب الاستطلاعات أكثر من 25 في المائة في منطقة عملها، ويصادف أن نسبة الذين تشغّلهم هذه الجهة في مؤسساتها هو نحو 25 في المائة.
يقول فنكلستاين إن موقفه متأسس في مرتكزين: الحقيقة، والعدالة. ومع أن المحاور الفلسطيني قال إنه يستطيع أن يخاطب فنكلستاين بنفس اللغة، لكنه يترفع عن ذلك، فإن من الصعب تصور أن لديه أي شيء يتهم به البروفيسور، كأن يتهمه بأنه يقيم موقفه لقاء وظيفة أو مكاسب أو امتيازات. إن مواقف فنكلستاين المعروفة تجلب عليه في الحقيقة كل أنواع المتاعب، من تهديد وظيفته الأكاديمية، إلى اتهامه بأنه يهودي كاره لذاته، أو حتى معاد للسامية.
سوف يرى كثير من الفلسطينيين موقف فنكلستاين أقرب إليهم، فكريًا، من مُحاوره الفلسطيني. إنه أقرب إلى التعبير عما أود أو أسميه "نحن هوياتية" فلسطينية، بينما يعبر "الناطق الرسمي" عن "نحن فصائلية". بل إنه يشير بالاسم في الحوار إلى الفصيل الذي يعتبره المناضل التاريخي، وبذلك صاحب الأحقية الأوحد في تقدير مصلحة فلسطين، وتصنيف الفلسطينيين، أكثر من الأميركي البعيد. (طريقة لتغريب فنكلستاين والتقليل من شأنه باعتبار أنه لا يعرف).
"نحن الهوياتية" الفلسطينية، كما أتصورها، هي نحن الوجودية الثقافية والتاريخية التي تعبر عن الانتماء الجمعي للشعب الفلسطيني بوصفه كيانًا واحدًا يحمل ذاكرة وتاريخًا مشتركين وينتمي إلى أرض واحدة، ويجمعه مصير مشترك. أما "نحن الفصائلية" في السياق الفلسطيني فـ"نحن سياسية، أيديولوجية"، يحددها في الأساس الانتماء التنظيمي والحزبي، وتعبّر عن الولاء لفصيل أو مشروع سياسي محدد، لكنها تنسحب على الفلسطينيين غير المنظمين، وإنما الذين يؤيدون رؤية فصيل أو مشروع سياسي معين. ("نحن الهوياتية" الفلسطينية هي في النهاية "نحن سياسية" بأحد المعاني– أو تطمح إلى أن تكون كذلك. وبذلك يكون التمييز بهذه التوصيفات اتفاقيًا، للتوضيح). 
وفق هذا الفهم الذي يتفق أكثر مع رؤية فنكلستاين الذي يرفض إدانة أي فلسطيني ويصرّ على السياق، تكمن معضلة الفلسطينيين– بل والعرب، إذا كان هذا يهم- في منسوب التوتر بين الذات الهوياتية والذات الفصائلية (السياسية، أو الأيديولوجية)، حيث الأولى توحّد الوعي، بينما الثانية تجزئه. أو هي، بكلمات أخرى، التوتر بين "فلسطين الهوية" و"فلسطين المشروع السياسي"، عندما يتفارق المفهومان باختلاف فلسطين المشروع عن فلسطين الهوية.
من المفارق أنه عندما يتعلق الأمر بـ"نحن الهوياتية" الفلسطينية، فإنها واحدة من أكثر الهويات الجماعية صلابة وتماسكًا واستمرارًا في التاريخ الحديث. إنها ليست هوية تعيش في مناخ السيادة والدعة والاستقرار، وإنما في محيط عاصف ممزِّق من النفي والاقتلاع والتوزُّع. وعلى النقيض من كثير من الهويات الوطنية التي نشأت حول دولة مستقرة أو جغرافيا محددة أو مؤسسات سياسية قائمة، حافظت الهوية الفلسطينية على وجودها رغم غياب كل ذلك– وربما بسبب ذلك. وبرغم كل الأضداد، تمكنت هذه الهوية من الصمود والاستمرار بعمل الذاكرة المشتركة، والمعاناة الجماعية، والتحرك في العالم والتعبير عن نفسها كيفما وأينما تسنى ذلك، والشعور غير المنقطع بالانتماء إلى أرض لم يرها معظم فلسطينيي اليوم، لكنهم جميعًا يتمثلونها في كياناتهم الشخصية.
ثمة العناصر المعروفة التي تشكل معًا "نحن الهوياتية" الفلسطينية: الذاكرة الجماعية؛ الرموز الوطنية والثقافية والتراث؛ واللغة والسردية؛ والوعي بالظلم والعدالة. لكنّ الذي يجعل من كل هذه العناصر وحدة تسمى الهوية هو الأرض- الحيز المكاني الذي تفاعلت وتبلورت فيه الذاكرة، واللغة، والعادات والعلاقات لتجعل ابن رأس الناقورة في أقصى شمال فلسطين وابن أم الرشراش في أقصى جنوبها وابن كل شبر منها يقولون: "نحن فلسطينيون". من هنا، من الأرض، ينشأ التوتر– أو لا ينشأ- بين "فلسطين الهوية" و"فلسطين المشروع السياسي".