«مدن في مرايا الغمام».. المدن العربية تتجلى شعرياً في رؤية الشاعر محمد البريكي
الدستور-رولا سالم
منذ القرن الثامن عشر، اصبح مفهوم «شعرية المكان» ركيزةً أساسية في التجديد الشعري، حيث تحولت المدن ألى فضاءات شعرية تعكس رؤى الشعراء وانفعالاتهم تجاه الواقع. فبينما رآها الرومانسيون ملاذًا روحيًا يتجاوز حدود الجغرافيا، اعتبرها الشعراء الملتزمون ساحة نضال ضد القهر، اما الرمزيون فصاغوها كأقنعة جمالية تعيد تشكيل بنية القصيدة الحديثة عبر الرمز والإيحاء.
في هذا السياق، يخوض الشاعر الإماراتي محمد عبد الله البريكي تجربة فريدة في مجموعته الشعرية «مدنٌ في مرايا الغمام» الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر، حيث يقدم رحلة وجدانية تسكنها العواصم العربية، ممتزجةً بروح الحنين والانتماء. بين الواقع والخيال، بين المجاز والتصريح، تتحول المدن ألى شخصيات حية، تتنفس الحب، وتحمل بين أروقتها عبق التاريخ وتطلعات المستقبل.
مدن تسكن الشاعر كما يسكنها:
يقول البريكي في إهدائه للمجموعة: «اسكنها وتسكنني، تأخذني ألى ساحتها في الخيال»، حيث تتجلى المدن في شعره ككيانات نابضة بالحياة، تتناغم مع الطبيعة في مشهد شعري يحمل حساسية رومانسية، تتلاقى فيها الشمس والموج والطيور والنخيل مع تفاصيل المكان وناسه وحضارته. ومن بين هذه المدن، نطل على الشارقة، مسقط، بيروت، مكة، دمشق، القاهرة، قرطاج، طنجة، بغداد، التي تتماهى في قصائده بين صور رمزية ولحظات بوح شفاف، يعكس فيها الشاعر علاقته العاطفية العميقة بالمكان.
رحلة عشق بين الشعر والمكان:
يجوب محمد عبد الله البريكي مدن الوطن العربي كعاشق مسكون بالانتماء والحنين، حيث تتخذ قصائده طابعًا وجدانيًا يمزج بين الشعر والمكان، لتصبح المدن أكثر من مجرد مساحات جغرافية، بل ذاكرة نابضة بالحياة. تبدأ رحلته من الإمارات، التي يصفها في قصيدته الإمارات منذ خمسين دُرَّة، مستعرضًا نهضتها المتواصلة التي بدأت مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان أل نهيان، واستمرت بقيادة حكامها، فيقول:
«منذ خمسين والإمارات تبني
للبلاد الرَّخا وتجني المسره
منذ خمسين والعزائم سيلٌ
لا يكف العطاءُ، والخير جره»
أما الشارقة، فهي معشوقته التي يخاطبها بلهفة العاشق، حيث يصفها بأنها «فتاة الحسن وشارقة الأغاني». في مشهد شعري ساحر، تبدو المدينة كأنها كائن ينبض بالشعر والجمال، وتغدو مفرداته في أروقتها كسحاب يمطر وحيًا، فيقول:
«إليكِ تسوقني الألحانُ وفدا»
وحين يحط رحاله في مكة المكرمة، تأخذ قصيدته بعدًا روحانيًا، حيث يرسم صورة وجدانية للحج والسعي، متحدثًا عن رحلته إلى أجياد ومشاعره في حضرة الكعبة المشرفة، فيقول:
«فما أنا إلا طائرٌ خلف ظهره
رياح تسوق العزم والوصل شاغلي
وأسعى ألى أجياد أو دون قبلةٍ
تكون دموعي في ثراها خمائلي»
أما القيروان، فيسافر عبر تاريخها العريق، حيث تستحضره نقوشها العتيقة وأزقتها المشبعة بالحضارة الإسلامية، ويجمع بينها وبين القاهرة في مشهد شعري يوحد ذاكرة العروبة، قائلاً:
«إذا أذّنَ الصبح في القيروان
تقيم الصلاة له القاهرة»
حزن المدن وأملها.. بغداد، بيروت، ودمشق:
حين يصل البريكي ألى بغداد، تتجسد المدينة في قصيدته بين الجمال والحزن، حيث يخاطبها وكأنه زائر يحمل إليها أشواقه وأعذاره، مستعيدًا مكانتها العريقة، مؤمنًا بأنها رغم الجراح، ستنهض كالإعصار. أما بيروت، فيرسمها كأنها أنثى مسكونة بالحزن، تتزين في انتظار عاشقها، بينما تغدو دمشق معادلاً شعريًا للكبرياء، فيقول عنها:
«مقسماً بياسمينها
إنها ستعود كما كانت
مكللة بالمجد والكبرياء»
جسرٌ من الحب بين المشرق والمغرب:
وفي عمّان، يجد الشاعر دفء الكرم وأصالة المكان، حتى أن قلبه كما يقول:
«تأردن في مرابع جودها
وعمّنه غيم السخاء فأزهرا»
أما حين يعبر نحو المغرب العربي، فإنه ينسج قصائده بروح المغامر الذي يفتش عن مجد المدن الغابر، ففي قرطاج يرى امتدادًا لحضارة أجداده، بينما يجد في طنجة صورة شاعرية لأبواب البحر المفتوحة على التاريخ والحضارات. وفي شنقيط بموريتانيا، يزورها كمن يخطب ودّها، واصفًا إياها بأنها «البنت المترفة» التي منحت الشعر حياته في فضاءاتها الرحبة.
يختتم البريكي رحلته الشعرية بروح المحب الذي يرى في كل مدينة وطنًا، وفي كل شارع قصيدة، وفي كل ركن حكاية لا تموت. مدن الوطن العربي في مرايا الغمام ليست مجرد أمكنة، بل كائنات نابضة بالحياة، يتنقل بينها بجناحي الخيال والحنين، حاملاً رسائل الحب والسلام، متوشحًا بوجد العاشق الذي تسبق أشواقه خطاه، حاملاً بين جنبيه روح الشعر العربي الأصيل.
«مدنٌ في مرايا الغمام» ليست مجرد مجموعة شعرية، بل هي ترحال وجداني في ذاكرة المدن، حيث تتلاقى الجغرافيا بالشعر، ويتحول المكان ألى مرآة تعكس عواطف الشاعر وانتماءه. البريكي، في هذه المجموعة، لا يكتب فقط عن المدن، بل يعيشها، يعانقها بالكلمات، ويحملها في قلبه حيثما حلّ، لتصبح كل مدينة بيتًا، وكل قصيدة نافذةً تطل على الحنين والأمل.
*كاتبة وصحفي سورية مقيمة في دبي.