عمون
هزاع البراري
يبدو جلينا أن ترامب يلاحق نفسه بسرعة فائقة، وكأنه وقد خسر الانتخابات قبل الأخيرة، يعود ليحقق لنفسه ما لا تحتمله فترة رئاسية واحدة، وهنا بدأت تتجلى تناقضاته الكبيرة، بين إعلانه العمل على وقف الحروب في العالم، وسعيه الحثيث إلى خلق الأزمات في كل مكان، والصدام مع الصديق والحليف والعدو، كما يعلن رفض قبول المهاجرين، ويعمل على ترحيل المهاجرين غير القانونيين من الولايات المتحدة الأمريكة ويدعو في الوقت نفسه إلى تهجير الفلسطنيين من أرضهم ووطنهم. يحارب المناخ ومنظمة الصحة العالمية والأونروا ويوقف المساعدات المبرمجة ويغلق USAID والكثير من الإجراءات، وماذا بعد؟ إلى أي حد يستطيع ترامب المواصلة على ذات الوتيرة؟ وما هي مكينة الأدوات التي يمتلكها كي يسيّر الكرة الأرضية على هذه السجية الغريبة؟ لاشك أن الأمر ليس بهذه السهولة، والعالم ليس حجارة شطرنج تنقل حسب هوى اللاعب، مهما كان متمعا بالقوة والنفوذ وعدم الدبلوماسية.
ترامب لن يدخل في حرب، ولن يحرك أساطيله وناقلات جنده في أصقاع المعمورة، بل يسعى إلى عكس ذلك تماما، بتقليل الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط وغيره، والضغط من أجل إخماد الحروب لا إشعالها، إذا ما هي أدوات الضغط التي يمتلكها ترامب التي لا تجعل منه مجرد ظاهرة صوتية مثيرة للدهشة والسخط معا، هل توقيع القرارات التنفيذية بهذه الطريقة الاستعراضية والإعلان عنها بشكل سينمائي كافية؟ فلقد رفع الرسوم الجمركية على كندا وحين ردت بالمثل عمل على تجميد القرار، وكذلك فعل مع المكسيك، ثم يقرر تجميد القرار بعد رد المكسيك بالمثل، لذلك فإنه في غياب الضغط العسكري، فإن أدوات الضغط الاقتصادية تترك أثرها على الاقتصاد الأمريكي أيضا كما على الدول المتضررة، في ظل امتلاك الدول بدائل كثيرة ربما أقل كلفة، في حين تدفع هذه الاجراءات إلى ارتفاع الأسعار على المواطن الأمريكي وزيادة التضخم وهذا لن يرضى عنه المواطن الأمريكي، نعم التضييق الاقتصادي يؤثر على الدول خاصة ذات الاقتصاديات الهشة، لكنه عند المساومة على قضايا كبرى وجوهرية يفقد قدرته على التأثير، فالدول كالأردن مثلا قادرة على التكيف مع الكفاف الاقتصادي، بل لديها خبرة كبيرة في ذلك لكثرة ما واجهته من أزمات وما زالت.
ترامب يخسر أدواته في الوقت الذي يواصل نشر قراراته شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، لإن اقتصاد أي دولة يقوم على تبادل المصالح وعلى بناء علاقات جيدة مع العالم وليس الصدام معه، لكن من الواضح أن ترامب يعول كثيرا على الضغط السياسي، وأن عظمة الولايات المتحدة وممارستها دور مدير عام شؤون الأرض، بالإضافة إلى وسعي ترامب لتأكيد بناء العصر الذهبي لأمريكا على يديه، سيمكنه من ممارسه ضغوط سياسية تجبر الدول على الإنصياع، هذا فيه رعونة سياسية فجة، فممارسة الحصار الاقتصادي في ظل وجود بدائل ولو كانت أكثر صعوبة يدفع الدول إلى تقوية اقتصادياتها الداخلية كما هي إيران وكوريا الشمالية وعدد من دول أمريكا اللاتينية، إن الضغط السياسي في ظل حالة تململ وعناد عالمية لسياسة ترامب تفقد أمريكا نجاعة التأثير السياسي، الذي يتراجع أيضا بسبب فشل الضغوط الاقتصادية أو على الأقل ضعف تأثيرها المباشر على الدول المستهدفة.
إن غياب فعالية التراسانة العسكرية الأمريكية، لأنها لا تتسق مع تواجهات ترامب المعلنة والهادفة إلى تبريد الجبهات وإسكات المدافع في جبهات القتال، وقدرة الدول على معالجة آثر رفع الضرائب ووقف المساعدات، وربما الرد عليها، من شأنه إضعاف التأثير السياسي لأمريكا، وبالتالي فإن ترامب على عكس ما يبدو ليس لديه ما يكفي من أدوات لوضع قراراته موضع التنفيذ، وسيبقى كثير منها ظواهر صوتية إعلامية، خاصة إذا تراجع الغرب عن دعم ترامب أو تبني سياسته، كما أن الساحة الداخلية في أمريكا لن تبقى بهذا الهدوء، برأيي الوقت ليس في صالح ترامب، لذا فإن التحلي بالصبر وتوحيد الخطاب الداخلي ورص الصفوف سيكون له أثر كبير في إبطال مفاعيل هذه السياسة مهما كان صوت هديرها صاخبا.