عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-Mar-2025

"مشروع مدغشقر" والترحيل القسري: حل هتلر الأصلي لـ"المسألة اليهودية"

 الغد

دومينيك فيدال* - (أوريان 21) 19 شباط (فبراير) 2025
 
يذكر مقترح دونالد ترامب حول التطهير العرقي في قطاع غزة بمشروع القادة النازيين الذي كان يقتضي إبعاد يهود أوروبا إلى جزيرة مدغشقر. وكان هذا الترحيل بمثابة أول مرحلة في مشروع الإبادة الجماعية لليهود.
 
 
رفض معظم المراقبين من البداية مشروع "ريفييرا غزة" الذي طرحه دونالد ترامب في أوائل شباط (فبراير) 2025 بحضور بنيامين نتنياهو، وهم يرونه مستحيل التنفيذ لأسباب سياسية وتقنية. أليس الهدف الرئيسي من هذا المشروع غير الواقعي لقطاع غزة هو تجسيد التطهير العرقي الذي يدعو إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي وحلفاؤه من دعاة التميز العرقي؟
يذكر هذا الحديث بـ"مشروع مدغشقر"، الذي اشتغل عليه مجموعة من القادة النازيين في صيف العام 1940، وكان جوهره "نقل" يهود أوروبا إلى هذه المستعمرة التابعة لفرنسا المهزومة(1). ألم يكن مثل هذا المشروع فرصة لتقديم "الحل النهائي للمسألة اليهودية"؟
قلة هم المؤرخون الذين ما يزالون يزعمون أن هناك خطاً مباشراً بين لحظة نشر هتلر كتابه "كفاحي" وبين معسكر أوشفيتز. عند بلوغهم السلطة، بدأ النازيون فعليًا بقمع اليهود. كان هناك تصاعد مستمر لعزل اليهود كليا من المجتمع الألماني، بدءا من الحملة الأولى لمقاطعة التجارة اليهودية، التي باءت بالفشل، في أول نيسان (أبريل) 1933، إلى "ليلة البلور"(2) في التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1938؛ ومن قوانين نورمبرغ بتاريخ أيلول (سبتمبر) 1935 وانتهاءً بـ"أرْيَنة" (نسبة إلى "الآرية" أو العرق الآري) الشركات والمحلات اليهودية في 1937 (أي استبدال أصحاب وعاملي المحلات اليهود قسرا بمالكين جدد ألمان "آريين") واستبعاد اليهود من القطاع المهني نهائيا في 1939.
ولكن، حتى اندلاع الحرب ووصول الجيش الألماني إلى بولندا، كانت برلين ما تزال تدرس مشروع ترحيل اليهود إلى بقاع منها فلسطين، على أساس اتفاق أبرمته حكومة المستشار هتلر منذ العام 1933 مع "الوكالة اليهودية"(3). وقدمت قوانين نورمبرغ إطاراً قانونياً -بعد أن كان دينيا- للتعامل مع يهود ألمانيا، مما أدى إلى حرمانهم المزدوج من الجنسية الألمانية ومن حقوقهم الأساسية. ولم يقتصر هذا التمييز على اليهود فحسب، بل امتد ليشمل الغجر والسود أيضًا.
فشل مؤتمر إيفيان
عندما غزا الجيش الألماني الأراضي النمساوية في آذار (مارس) 1938 وألحقها الرايخ بأراضيه بعد شهر واحد، فُتح باب قدوم المهاجرين اليهود من ألمانيا والنمسا إلى الولايات المتحدة على مصراعيه، بعد أن كان "قانون جونسون-ريد" (1929) الخاص بالهجرة يقيد عدد التأشيرات بـ27 ألف تأشيرة سنويا فحسب. قرر الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت، في هذا الصدد، تنظيم مؤتمر دولي حول "مسألة اللاجئين" بالتعاون مع عُصبة الأمم (سلف الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى). لكن سويسرا، التي كانت تؤوي مقر المنظمة، رفضت استضافة المؤتمر، فما كان إلا أن عُقد في مدينة إيفيان الفرنسية من 6 إلى 16 تموز (يوليو) 1938.
وأعلمت الولايات المتحدة البلدان المدعوة أنها غير مطالَبة باستضافة اللاجئين، ثم توالت ردود اعتذار دول مثل إيطاليا والاتحاد السوفياتي عن حضور المؤتمر. وفي النهاية، قبلت الدعوة 32 دولة، منها 20 دولة من أميركا اللاتينية، ولكن وافق منها بلد واحد على إيواء اللاجئين مقابل تمويل دولي، وهو جمهورية الدومينيكان.
من جهتها، رفضت المملكة المتحدة، التي كانت قد فرضت انتدابها على فلسطين منذ العام 1923، زيادة الهجرة اليهودية إليها خشية احتجاجات المجتمع العربي. وتذرعت فرنسا بالمخاوف نفسها في الجزائر وغيرها من إقليمها ما وراء البحار. وحضرت المؤتمر أيضًا "الوكالة اليهودية"، بممثلتها آنذاك غولدا مائير -رئيسة وزراء إسرائيل المستقبلية. وكتبت مائير لاحقا في مذكراتها(4):
"إن الجلوس في هذه القاعة المهيبة والاضطرار إلى الاستماع إلى كل دولة من الدول الاثنتين والثلاثين وهي تنهض واحدة تلو الأخرى لتشرح مدى أساها على مصير اليهود المضطهدين البائسين، وكم كانت تود مساعدتهم، ولكنها، ولأسفها الشديد، لا ترى حقاً كيف يمكنها التدخل لحل الوضع، كان تجربة مروعة. يصعب عليّ التعبير عن الغضب والإحباط والرعب التي اجتاحتني".(5) 
امتنعت الدول المشاركة في المؤتمر عن التحدث بوضوح عن اليهود الألمان، وحتى عن التعليق عن سياسة برلين إزاءهم. وأسفر الحدث عن نتيجة واحدة هي تأسيس "اللجنة الحكومية الدولية لشؤون اللاجئين"، ولم تكن هذه النتيجة الضئيلة لتخفي إخفاق هذه المحاولة الأخيرة لتمكين اليهود الألمان والنمساويين من الهروب بجلدهم من المصير الذي قرره لهم النظام النازي.
ترحيل اقترحته فرنسا وبولندا
منذ اجتياح جيوش الرايخ بولندا في أول أيلول (سبتمبر) 1939، لم تعد "المسألة اليهودية" نظرية. بالإضافة إلى النصف مليون يهودي المتواجدين في الرايخ الكبير، أصبح لدى السلطة ثلاثة ملايين ونصف المليون يهودي بولندي، وكانت تعتزم عزلهم في أحياء خاصة بهم. ولم يكف المحامي هانز فرانك، محافظ الحكومة العامة للأراضي البولندية المحتلة آنذاك، عن الضغط على برلين باستمرار لإيجاد "حل نهائي للمسألة"، في حين كانت برلين تدرس ترحيل أربعة ملايين يهودي أوروبي إلى مستعمرة فرنسا، مدغشقر.
كانت بولندا قد درست هذا الاحتمال في العام 1936، وتبعتها فرنسا بعد عام واحد. وكان أصل المقترح هو رغبة باريس ووارسو في نقل اليهود الأوروبيين إلى الجزيرة لسلامتهم، حتى أن بولندا شكلت لجنة لتنظيم العملية وأرسلت وفداً إلى عين المكان. لكن الخطة قوبلت برفض قاطع من وزير المستعمرات الفرنسي جورج مندل، فأعلمت وارسو وزير الشؤون الخارجية الألماني جواكيم فون ريبنتروب بالمشروع، وتم إصدار مذكرة بتاريخ 3 حزيران (يونيو) 1940 أرسلت بعدها إلى هاينرخ هملر ثم أدولف هتلر، الذي فاتح بدوره بنيتو موسوليني في الموضوع.
إشعال فتيل الإبادة
لم تر برلين المشروع من منظور حماية اليهود الأوروبيين، بل العكس. رأته من منظور الشروع في إبادتهم، أولا وهم في طريقهم إلى مدغشقر، ثم في المكان نفسه. وبدأت فرق القتل المتجولة "الاينزاتسغروبن" (Einsatzgruppen) مهمتها فعلا في بولندا، ثم في الاتحاد السوفياتي بداية من 22 حزيران (يونيو) 1941، وهي العمليات التي لُقبت فيما بعد بـ"المحرقة بالرصاص". وقُتل خلال هذه العملية قرابة المليون يهودي قبل أن يعلن هتلر لرؤساء المحافظات النازيين (غوليتر) في منتصف كانون الأول (ديسمبر) 1941 عن اتخاذه قرار الشروع في الإبادة بصفة "صناعية" -أي بالجملة- لليهود. وفي آخر كانون الثاني (يناير) 1942، وزع مؤتمر وانسي على مؤسسات الدولة النازية أدوارها في إبادة اليهود جماعيا.
في النهاية، أجهض مشروع مدغشقر لسبب بسيط، هو أن "الحرب الخاطفة" (Blitzkrieg) على بريطانيا لم ترغمها على الاستسلام، على عكس توقعات هتلر. وبما أن ألمانيا لم تسيطر على المحيط، فقد اضطرت إلى التخلي عن استئجار البواخر الضرورية لترحيل يهود الرايخ وبولندا إلى هذه الجزيرة الفرنسية.
يعتبر أغلب المؤرخين أن إبادة اليهود الجماعية اندلعت فعلا في الاتحاد السوفياتي المحتل، حين قتلت القوات المسلحة النازية وفرق القتل -ليس الرجال اليهود فحسب، بل النساء والأطفال أيضًا. ثم تم استخدام شاحنات الغاز لارتكاب مذبحة ضد المعاقين -من 1939 إلى آب (أغسطس) 1941-(6)، وبعد ذلك غرف الغاز، وكانت أولى تجاربها بين تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) 1941 في معسكري "شلمنو" و"أوشفيتز" ثم في باقي معسكرات الإبادة في بلزيك وسوبيبور وتربلينكا أو مجدانيك وناتز ستروتهوف.
في الرابع من تشرين الأول (أكتوبر) 1943 في بلدة بوسن البولندية، خطب هاينريش هملر في مجموعة من قادة الـ"أس أس" متحدثا بلا مواربة عن "الحل النهائي"، قائلاً:
"أحدثكم الآن عن ترحيل اليهود، عن إبادة الشعب اليهودي، وما أسهل قول ذلك: ستتم إبادة الشعب اليهودي، يقول كل عضو من الحزب [النازي]. الأمر واضح، وهو وارد في برنامجنا: القضاء على اليهود، هذا ما نقوم به (...) لم ولن تتم كتابة هذه الصفحة الجليلة من تاريخنا بعد... كان هذا من حقنا الأخلاقي، لقد اضطُررنا إلى قتل هؤلاء الناس الذين كانوا يريدون قتلنا".  
*دومينيك فيدال: صحفي ومؤرخ، مؤلف كتاب "معاداة الصهونية = معاداة السامية"؟ Antisionisme = antisémitisme، (منشورات ليبرتاليا، شباط/ فبراير 2018). ترجمت المقال من الفرنسية فاطمة بن حمد.
الهوامش:
(1) ملاحظة من هيئة التحرير: شنت ألمانيا النازية معركة على كل من هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، انتهت بهزيمة قوات الحلفاء واحتلال ألمانيا لفرنسا في 1940.
(2) ملاحظة من هيئة التحرير: عمليات نظمها ونفذها النازيون ضد مصالح وبيوت يهودية في ألمانيا، وأطلق هذا الاسم على هذه الليلة لكثرة الزجاج الذي تكسر فيها.
(3) ملاحظة من هيئة التحرير: منظمة أنشئت في العام 1929 تحت اسم "الوكالة اليهودية لأجل فلسطين"، وكانت الجهاز التنفيذي للمنظمة الصهيونية الدولية في فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
(4) غولدا مائير، "حياتي"، لي بيل ليتر، 2023.
(5) مقتبس من كتاب مارسيل بيرفويتس-تراغولز، "قائمة سان سيبريان: ملحمة آلاف اليهود الذين طردتهم السلطات البلجيكية في 10 أيار (مايو) 1940 إلى معسكرات الاعتقال في جنوب فرنسا، منطقة انتظار معسكرات الإبادة". (دار نشر أليس، 2006).
(6) ملاحظة من هيئة التحرير: قام النظام النازي بإبادة البالغين المعاقين ذهنيا وجسديا من ألمانيا والنمسا، وسميت المذبحة فيما بعد بـ"آكتيون ت4"، وقُتل فيها بين 70 و80 ألف شخص.