الغد
يشير مفهوم “الشرق الأوسط الإمبريالي” في السياق الراهن إلى خضوع المنطقة للنفوذ الإمبريالي الذي تتصدره الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، إلى جانب الهيمنة الإقليمية للكيان الاستعماري الصهيوني. وهو شرق أوسط قوِّضت فيه السيادة الوطنية بفعل التدخلات الأجنبية، والاحتلالات العسكرية، والتبعية الاقتصادية، والهندسة السياسية التي تخدم المصالح الإمبريالية على حساب تطلعات ومصالح شعوب المنطقة.
يتجلى واقع الشرق الأوسط الإمبريالي في الحضور العسكري الأميركي والغربي في شكل قواعد وقوات منتشرة في عدة دول، واستخدام بعض الدول كساحات صراع تخدم المشاريع الخارجية وليس احتياجات شعوبها. وفي المقابل، تواصل المستعمرة الصهيونية دورها كمخفر متقدم للمشروع الغربي في المنطقة، وتضمن زعزعة الاستقرار بالحروب المتكررة والاغتيالات الممنهجة، وانتهاج سياسات استعمارية توسعية قائمة على تهجير الفلسطينيين وإحلال المستوطنين محلهم –ومؤخرًا الاحتلال العسكري لأراض عربية جديدة والتهديد باحتلال المزيد.
في هذا السياق، تلعب الآليات المحلية دوراً محورياً في ترسيخ هذا النموذج بضمان استمرار السياسات التي تُبقي المنطقة تحت السيطرة، بالقمع الداخلي، والتحالفات الأمنية، والاعتماد على واشنطن لتأمين السلطة. وعلى الصعيد الاقتصادي، تتحكم المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، بمسار التنمية في الدول العربية، وتفرض عليها نماذج اقتصادية تُكرّس التبعية وتقوض الاستقلال.
بذلك، لا يقصد مفهوم “الشرق الأوسط الإمبريالي” أن يكون توصيفًا لوضع قائم سكوني، بل لوصف مشروع حركي مستمر يهدف إلى إبقاء المنطقة في حالة قلقة: لا حرب ولا سلام، أو حرب ولا سلام، ممزقة دائمًا بين الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية، مشوشة وممنوعة من العثور على طريقة لتوحيد نفسها وترتيب بيتها بما يخدم مصالح شعوبها.
في سياق “الشرق الأوسط الإمبريالي” المأزوم بطبيعته، تتطلع دول المنطقة العربية إلى الولايات المتحدة، باعتبارها قائدة الغرب القوي –و”المجتمع الدولي” و”النظام الدولي” اللذين يهيمن عليهما الغرب القوي- لحل مشكلات منطقتها وأخذها إلى الاستقرار. بل إن الأمور رُتبت بدأب بحيث يبدو الأمر وكأنه ليس هناك بديل عن هذه الوجهة وحدها لاستجداء الأمن والاستقرار والأمان من السيد الاستعماري.
في الحقيقة، ثمة مغالطة كبيرة في هذا النهج الذي يتجاهل المنطق الأساسي الذي حكم ديناميات المنطقة منذ أكثر من قرن. من أين جاءت الفوضى في الأساس، ومن الذي يديرها؟ كان زرع الفوضى وعدم الاستقرار هو الأداة الفعالة التي صممها الغرب الاستعماري لضمان استمرار هيمنته على منطقة الشرق الأوسط، وليس من المعقول أن يُطلب منه بالذات إحباط أداته التي لا تُقدر بثمن، والتخلي بذلك عن الوسيلة الأساسية للاحتفاظ بالرصيد الاستراتيجي الهائل الذي تعنيه السيطرة على الشرق الأوسط للهيمنة العالمية. ولنقرأ التاريخ.
كان الشرق الأوسط، تاريخيًا، محورًا ثابتًا للطموحات الإمبريالية، ومسرحًا تفرض فيه القوى العظمى إرادتها بالحرب، والدبلوماسية، والاستغلال الاقتصادي. وقد جعل موقعه الجيوستراتيجي واحتياطاته الهائلة من الطاقة، وصراعاته التاريخية عميقة الجذور، من الشرق الأوسط هدفًا يستحق العناء لطالبي الهيمنة. ومن التتار إلى العثمانيين، وصولًا إلى البريطانيين والفرنسيين، وانتهاء بالأميركيين وحلفائهم من الدول العميلة الحديثة، سعت الإمبراطوريات إلى غزو الشرق الأوسط والسيطرة عليه. وما يزال الشرق الأوسط اليوم منطقة فيها السيادة محض وهم، وحيث الشعوب يتحكم في مصيرها المنطق الإمبريالي القائم على التدخل، والاحتلال والاستغلال.
يمكن، بأمان، اقتراح أن استدامة هذه الحالة من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط ليست نتيجة عرضية لصراعات تتحرك بآلياتها الخاصة، وإنما هي نتيجة حتّمتها طريقة القوى الإمبريالية المدروسة في إدارة المنطقة جيوسياسيًا. وباعتبارها كذلك، فإن الاعتقاد بأن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين يمكن أن يسعوا بأي طريقة إلى وضع حد لهذا الاضطراب –حتى بإلحاق هزيمة نهائية بالمقاومة الفلسطينية وحلفائها وتطبيع الكيان نهائيًا في المنطقة، هو تصور مضلل في أحسن الأحوال. في الواقع، ثمة للقوى الإمبريالية مصلحة راسخة في رعاية حالة الصراع وعدم الاستقرار، حيث يغلب أن يؤدي الاستقرار، سواء تحت هيمنة الكيان، أو حتى في ظل نظام إقليمي تقوده الدول العربية، إلى تقويض أسس الهيمنة الغربية نفسها.
تاريخياً، ارتكزت الاستراتيجية الإمبريالية على مبدأ “فرّق تسد” الذي أتقنته الإدارة الاستعمارية البريطانية، وورثته الولايات المتحدة وطورته إلى حدوده القصوى في مساعيها الشرق أوسطية. وكما تعلمنا مع أبجديات المعرفة، بدأت قصة الشرق الأوسط الحديث بمعاهدة “سايكس-بيكو” (1916)، التي قصدت بوضوح إلى منع قيام كيان عربي موحد، وضمان الاستفادة من الموقع الاستراتيجي والثروات الطبيعية للمنطقة عن طريق تجزئة –وإدامة تجزئة- العالم العربي وعدم إمكانية تحققه كشخصية موحدة بنيويًا، بإرساء حدود مصطنعة تقصدت تجاهل أي قدر من التجانس قد يضمن استقرار الوحدات القُطرية.
بسبب الأهمية الاستثنائية للشرق الأوسط، ناور الاستعمار البريطاني الخارج من المنطقة لخلق ظروف تتيح استمرار الهيمنة على الإقليم المهم بآليات أكثر خبثًا. وكانت الفكرة بناء “حصان طروادة” يمكن من خلاله تأمين عبور دائم إلى المنطقة وتعميق تجزئتها بوجوده في وسطها. كان تسهيل إنشاء الكيان الصهيوني في المنطقة مخططا مستقبليا بارعا ضمن التحكم في ديناميات الشرق الأوسط والتلاعب بها –دائمًا نحو إخضاعه.
كما هو معروف جيدًا، يشكل الكيان الصهيوني جزءا محوريا من البنية الإمبريالية التي تحكم المنطقة. وخلافا للدول العميلة التقليدية التي تعمل كامتدادات طيعة للإمبراطورية، يعمل الكيان كوكيل نشط للهيمنة الغربية، تتوافق طموحاته التوسعية الخاصة مع وظيفته كأداة لا غنى عنها لتأمين المصالح الاستراتيجية الأميركية والأوروبية. ويسمح له تفوقه العسكري، المؤيد بدعم غربي غير محدود، بفرض حالة دائمة من الحرب والتجزئة في المنطقة وإبقائها في حالة من الفوضى المدروسة.
يضمن التمزيق المتعمد للعالم العربي، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، عدم قدرته على جعل نفسه قوة إقليمية مهمة ومتماسكة بما يكفي لتحدي النفوذ الغربي. ولو تمكن الكيان الصهيوني من ترسيخ سيطرته الكاملة أو حقق اندماجًا سلسًا في المنطقة، فإن ثمة مفارقة يغلب أن تنشأ: سوف يتضاءل المبرر الأساسي للتدخلات العسكرية والسياسية والاقتصادية الغربية في الإقليم، وسوف يضعف دور الكيان كمفسد ضروري. لو كف الكيان عن أن يكون مشكلة أو مثيرًا للمشاكل، لانتفى الغرض من وجوده جملة وتفصيلا. كانت المشاكل من كل الأنواع هي الضمانة لبقاء الشرق الأوسط الإمبريالي خاضعًا وعاجزًا كما هو. لذلك من العبث التفكير في أن أميركا والغرب يمكن أن يفعلا أي شيء ينهي المشاكل -حتى للكيان نفسه، ناهيك عن دول الإقليم.