الغد
من سوء حظ التجربة السورية أنها تأثرت بالديناميات الجيوسياسية في الإقليم والعالم الأوسع أكثر مما سيّرتها الديناميات الداخلية. وعلى النقيض من تجربة «الربيع العربي» في تونس أو مصر، على سبيل المثال، حيث كانت آليات تغيير النظام داخلية في الغالب - وإن تأثرت شيئًا بالقوى الإقليمية- تفاقمت الأزمة السورية وكلفت هذا الحجم الهائل من الخسائر بسبب كثرة «الطباخين» الذين غمسوا مغارفهم المسمومة في القدر السورية بحيث يصعب ألا تكون الطبخة الناتجة غير. وفي الحقيقة، يندر أن يتجمع هذا العدد من اللاعبين ذوي المصالح المتعارضة في مكان واحد.
الآن، بعد أن سقط النظام – والدولة السورية إلى حد كبير- تريد الأطراف المتدخلة أن تجني ثمار استثماراتها في الحرب. وهي تتزاحم هناك لتأخذ حصتها في مشهد سياسي وأمني معقد ومجزأ إلى حد كبير، وسيكون مستقبل سورية في هذا السيناريو رهنًا بحاصل تفاعل كل هؤلاء اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، كل منهم بمصالحه ورؤاه الخاصة لمستقبل البلد.
ما تزال الولايات المتحدة تحتفظ بوجود عسكري في سورية تحت ذريعة محاربة «داعش» ومنع انبعاثه. وهي تدعم ميليشيات محلية مختلفة من الأكراد والعرب، وتستخدم نفوذها لتشكيل المشهد السياسي. وما يزال العلم التركي يرفرف على أجزاء من شمال سورية بعد أن أثرت بقوة، باستخدام جيشها واستخباراتها ورعايتها لميليشيات من المحليين و»المهاجرين» على التطورات على الأرض. وما يزال الأكراد يسيطرون، بحماية أميركية انتقائية، على أجزاء من سورية. وفي الوقت نفسه، وجد الكيان الصهيوني فرصة سانحة للإجهاز على المقدرات العسكرية وما يمكن من بقية البنية التحتية للبلد حتى لا تقوم له قائمة لوقت طويل – بل واحتلت جنوب غرب سورية ويستعد غلاتها للاستيطان هناك.
العرب الذين استثمروا كثيرًا يبحثون عن عوائد لاستثماراتهم في زحام التدافع على الغنائم. ومنهم من كانت استثماراتهم صغيرة، أو لم يستثمروا على الإطلاق، يذهبون إلى دمشق للاستفهام، وربما يرضون بين المتنافسين الكبار «من الغنيمة بالإياب». وداخليًا، يواجه السوريون تحدي التوفيق بين عناصر مجتمع تمزق بشدة، بعد أن أثارت عقود من حكم الحزب الواحد مشاعر الاستياء بين مختلف المجموعات العرقية والدينية، والتي زادتها الحرب سوءًا. ويؤدي صعود الميليشيات الإسلاموية بشكل خاص إلى مزيد من الاستقطاب، خاصة بين الأقليات مثل العلويين، والدروز، والأكراد. وتعقد هذه الانقسامات أي جهود لتشكيل هوية وطنية موحدة أو تأسيس نظام سياسي مستقر.
وبشكل خاص، تبدو التوجهات الأيديولوجية لحكام سورية الجدد غريبة على مجتمع تمتع بتاريخ غني من العلمانية والتعددية. وقد أثارت مظاهر العنف التي أظهرتها مقاطع الفيديو ضد الأقليات و»الفلول» في ظل الحُكم الوليد القلق مسبقًا، وثمة خشية من أن تدفع الرؤية الحصرية للجماعة المهيمنة البلد إلى مزيد من الفوضى. ويتعارض النسيج الاجتماعي والسياسي لسورية، بتنوعه العرقي والديني، مع الأيديولوجيات الأحادية التي تروج لها بعض الأطراف الصاعدة.
لكن أبرز الكاسبين، الذين حققوا عوائد استثماراتهم -واستثمارات الآخرين أيضًا- كما يقدر معظم المراقبين، هما تركيا والكيان الصهيوني. وعلى سبيل المثال، كتب الصحفي البريطاني، ريتشارد كيمب في صحيفة «التلغراف» الشهر الماضي: «بدلاً من الولايات المتحدة، كانت تركيا هي ’شريكة‘ إسرائيل في الإطاحة بالأسد. ولا يسعنا إلا أن نتكهن فقط بما إذا كان هناك أي تنسيق بين الدولتين، لكن الرئيس رجب أردوغان هو الذي أطلق العنان لـ’هيئة تحرير الشام‘، التي ترعاها تركيا مع قطر، لقيادة الحملة على دمشق».
وأضاف كيمب: «سوف يتأثر مستقبل سورية بإسرائيل وتركيا بما يتجاوز كل القوى الأخرى. ومع أن البلدين بعيدان عن أن يكونا صديقين، فإن لكليهما مصالح أمنية قومية في سورية. وإلى أن أمر نتنياهو جيشه بتحطيم المقدرات العسكرية السورية بعد سقوط نظام الأسد، كان البلد يشكل لعقود أكبر تهديد تقليدي مباشر لإسرائيل».
لكن مصالح البلدين شرعت في التفارق، كما أظهر الخبر الذي نشرته صحيفة «يسرايل هيوم» الأسبوع الماضي عن «مقترح إسرائيلي لعقد مؤتمر دولي لتقسيم سورية». وذكرت الصحيفة أن مؤتمرًا سريًا عُقد برئاسة وزير الدفاع، يسرائيل كاتس، لبحث هذا العنوان ورفع الخلاصات إلى نتنياهو الذي سيعقد اجتماعًا خاصًا لبحث المسألة، «خاصة مع التركيز على تورط تركيا في سورية، الذي يشكل تهديدًا لإسرائيل». وقالت الصحيفة أن «المناقشات خلال الاجتماع الذي ترأسه كاتس ركزت على الخوف على سلامة وأمن الأقليتين الصديقتين لإسرائيل، الدرزية والكردية». وليس الكيان صديقًا لأحد سوى نفسه، لكن هذه الأفكار تنسجم مع الهدف الأوسع المتمثل في زعزعة استقرار الدول المجاورة لمنع ظهور قوى موحدة قادرة على تحدي الكيان.
في المقابل، كان أكثر ما تكرر في الخطاب التركي هو الحديث عن «الحفاظ على وحدة سورية»، بالإضافة إلى قلع أنياب الأكراد (أصدقاء الكيان كما يزعم). وقد خير الرئيس التركي الأكراد السوريين بين تسليم سلاحهم أو دفنهم مع سلاحهم، وذكر في حديث له أول من أمس أن المجتمع الدولي سرعان ما سيتدخل لدفع «إسرائيل» إلى الخروج من الأراضي السورية.
هذا جزء فقط من تعقيد المشهد السوري، الذي يجعل من التنبؤ بما يمكن أن يحدث غدًا مهمة محفوفة بالمخاطر على الأقل. (يُتبع)