عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Jan-2019

تماثیل "عین غزال".. إشعاع من رحم التاریخ للفنان مفاضلة

 

عمان- الغد- لم یذھب الفنان التشكیلي والنحات الأردني غسان مفاضلة، ھذه المرة، مع أعمالھ
ً النحتیة إلى الساحات والمیادین العامة التي یستقي من بیئتھا، عادة، مواضیعھ وتكویناتھ الفنیة  التي تنتصب في غیر مكان في عم ً ان وعدد من المحافظات الأردنیة؛ بل راح مباشرة إلى ٍ محاورة واحد من أقدم منجزات الإنسان في عصور ما قبل التاریخ، لیسحبھا ویضعھا بین أیدینا حیةً ومعاصرة بتوجھاتھا وتعبیراتھا الفنیة والجمالیة.
مع تماثیل ”عین غزال“ التي تعد من أقدم المنحوتات المتكاملة في التاریخ البشري، لم یذھب مفاضلة في أعمال معرضھ ”إشعاع من رحم التاریخ“ إلى تقلیدھا أو محاكاتھا على نحو تسجیلي، بل تعامل معھا بوصفھا مرجعاً تعبیریاً مفتوحاً على الإمكانات المتنوعة لـ“قراءتھا“ وإعادة انتاجھا من منظور معاصر. وھو ما یظھر جلیاً في أعمال المعرض الذي افتتح أول من أمس في المتحف الوطني الأردني للفنون الجمیلة ضمن نشاطات نادي الحوار الفني الذي یستضیف الفنان مفاضلة لھذا الشھر.
یتكون المعرض الذي جاء محصلةً لنتاج مشروع التفرغ الإبداعي الذي حصل علیھ الفنان من وزارة الثقافة للعام 2018 ،من 14 عملاً نحتیاً منفذة من صفائح حدیدیة وقضبان معدنیة ومواد مختلفة، وتتراوح ارتفاعات الأعمال بین 5.1 متر و5.2 متر، بعرض 80 سم لكل عمل. وجاء المعرض ضمن نشاطات نادي الحوار الفني في المتحف الوطني الأردني.
وعلى الرغم من التوجھ المعاصر الذي ظھرت علیھ التماثیل في أعمال المعرض، سواء من خلال طریقة العرض أم من خلال الإنشاء والتكوین، فإن جل الأعمال ظل على ارتباط وثیق بملامح التماثیل الأصلیة التي تعود إلى 10 آلاف عام، من دون أن تتخلى عن حداثتھا ومعاصرتھا. فمن خلال تماثیل عین غزال نتعرف إلى واحدة من أوائل السردیات التي تعاین حكایة ”الغزالي الأول“ في تخطي إملاءات الطبیعة وتحدیاتھا التي راح یبتدع معھا، قبل بزوغ فجر التاریخ، طرائقھ في التعبیر عن ھواجسھ ومعتقداتھ. إضافة إلى كونھا تعد مثالاً ساطعاً على تطور الحضارات الإنسانیة وتعاقبھا على جغرافیة المكان الأردني منذ العصر الحجري الحدیث.
لم یكتف مفاضلة في ھذا المعرض باستنباط تكویناتھ وتعبیراتھ الخاصة بتلك التماثیل من رجعھا الأصلي، بل ذھب إلى عرض ”صورتھا السالبة“ جنباً إلى جنب مع ”صورتھا الموجبة“ لیضعنا أما مقاربتین بصریتین بین التشخیص والتجرید اللذین یتقاطعان في العمل الواحد ویتفارقان على ھیئة عملین مستقلین.
لا تنحصر أھمیة تماثیل عین غزال في سیل المعلومات الذي أتاحتھ لعلماء الآثار والأنثروبولوجیا في التعرف على أقدم القرى المستقرة التي جمعت بین مزیج الزراعة و“الصناعة“ والرعي في العصر الحجري الحدیث (8500-4500 ق. م)؛ بل تجاوزتھا نحو الكشف عن فرادة القیم التعبیریة والتقنیة والجمالیة التي حازتھا أول تماثیل فنیة متكاملة عرفتھا
مسیرة الإنسان على امتداد العصور الحجریة. وھي في خلاصتھا المادیة والروحیة، تمثل ٍ عصارة مجتمع توفر على مستوى عال من الاستقرار والرقي والرفاه، قبل الشروع في تدوین سجلات التأریخ.
لم یتوقف إنسان ”عین غزال“ عند المعطى الوظیفي للنحت الذي عرفھ إنسان العصر الحجري القدیم عبر تصنیع أدواتھ الحجربة وتسخیرھا لخدمتھ المعیشیة؛ بل شرع الإنسان الغزالي، بما حققھ من رفاه واستقرار على ضفاف ”وادي الزرقاء“ في ابتكار مواده وتقنیاتھ، وتطویعھا بما یخدم تنصیب تماثیلھ التي صار معھا النحت لأول مرة، فناً قائماً على الإنشاء والتركیب، وإعلاء قیم الجمال في التمثیل والتعبیر. البنیة التكوینیة لتماثیل معرض ”أشعاع من رحم التاریخ“ لیست مجرد كیان حاضن للمادة وملامح التعبیر وتوجھاتھ، ولیست مساحةً لتراكم الخبرة أو التقنیة، وحسب؛ إنھا البنیة التي صارت معھا التماثیل مصھرة للتقنیة والتوجھ والتعبیر. وھو ما منحھا ھویة استثنائیة نتعرف على ملامحھا عبر الحركة بوصفھا فاعلیة تبسط حضورھا في بنیة التمثال؛ فمن خلالھا نتعرف على مبدأ التوزیع ونظام التركیب المجسدین في الشكل والتكوین.
لیست بنیة التكوین ھي فقط ما یلفت الأنظار إلى التماثیل بأحجامھا المتفاوتة، وتكویناتھا الكاملة والنصفیة ذات الصیغ المفردة والمزدوجة (تماثیل برأسین)؛ فھناك العیون ”اللوزیة“ التي ُ سرعان ما تسحبنا بحدقاتھا النافرة، واتساعھا المفرط، نحو مركز إشعاع التعبیر. وحین نكون على مقربة من مرماھا الساھم/النافذ/المتأمل، نتعرف إلى بعض تقمصاتھا ومخبوءاتھا السابقة على أبجدیة تدوین التاریخ بنحو أربعة آلاف عام. ومع مرمى العیون نفسھا، نصیخ السمع أیضا، إلى حوار الأزمنة المتعاقبة بین ”الرائي والمرئي“. حوار مفتوح على قطبي الأثر والمخیال، ومشرع على إفضاءات الحدس والتأویل.