الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
كريستوفر فيليبس* - (ميدل إيست آي) 13/3/2025
يبدو أن حرب غزة وتداعياتها في لبنان وسورية عززت مواقف إسرائيل وتركيا. ولكن، لا ينبغي المبالغة في تقدير المدى الذي يشكل فيه هذا خروجًا حقيقيًا عن الماضي.
في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة، أكد العديد من المعلقين أن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط يشهد تغييرًا عميقًا. ويجري استخدام تطورات مختلفة لتبرير هذه الحجج، بما في ذلك المزاعم التي تطلقها إسرائيل عن سحق "حماس" و"حزب الله"؛ واحتلالها لأراض لبنانية وسورية جديدة؛ وانسحاب إيران النسبي من هذه الساحات؛ وسقوط نظام الأسد في سورية، إلى جانب التحسن المصاحب في موقف تركيا في الإقليم.
تؤكد عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والتحول الواضح الذي أحدثه في نهج واشنطن هذه الادعاءات عن قدوم نظام جديد. ولكن، إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه التطورات تحولًا جادًا في شخصية المنطقة؟
لا تخلو العديد من هذه التحولات من سابقة - يبرز منها بشكل خاص التقدم الذي أحرزته إسرائيل مؤخرًا. لا شك في أن حجم الدمار والخسائر التي لحقت بالأرواح في غزة ولبنان جديد، لكن التكتيكات العسكرية ليست كذلك.
تشبه تجربة "حماس" و"حزب الله" من نواح كثيرة ما حدث لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" في السبعينيات والثمانينيات، عندما سعت التدخلات العسكرية الإسرائيلية والاحتلال اللاحق إلى تدمير الحركة. في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، كانت أهداف الحرب الإسرائيلية هي تدمير عدوها واحتلال منطقة عازلة.
ولكن، في حين تمكنت إسرائيل من إجبار "منظمة التحرير الفلسطينية" على الخروج من لبنان، كانت حرب العام 1982 على لبنان سببًا في صعود خصم جديد، "حزب الله"، وهو ما لم يجعل إسرائيل أكثر أمانًا ولا أكثر هيمنة على منطقة شرق المتوسط. في الواقع، بدلاً من الإيذان بقدوم حقبة من الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية، شهدت الثمانينيات غرق إسرائيل في احتلال استنزف طاقتها وأجبرها في النهاية على الانسحاب والتسوية.
يتغير الزمن، بطبيعة الحال. لكن تلك الإخفاقات أظهرت محدودية قدرة إسرائيل، خاصة عندما يتعلق بالقوات، وهو ما يثير التساؤلات حول مدى قدرتها على ترجمة التفوق العسكري إلى هيمنة إقليمية.
إيران أُضعفت، لكنها لم تهزم
كما ينبغي التعامل بحذر أيضًا لدى التعامل مع الأفكار المتسمة بالمبالغة، والقائلة بأن إيران أصبحت في حالة تراجع. من المؤكد أن إيران عانت من ضربة قوية. ولم يتمكن هجومها الصاروخي المباشر على إسرائيل من كبح العدوان الإسرائيلي، بينما كشف عن حدود ترسانة طهران الصاروخية التي لطالما تباهت بها. لكنَّ إيران أبعد ما تكون عن الهزيمة. وهي تحتفظ بوجود كبير في العراق، بينما خرج حلفاؤها الحوثيون في اليمن من الصراع بموقف أقوى.
وعلى الرغم من أن التصور العام يتحدث عن إضعاف "حماس" و"حزب الله" ، إلا أنهما ما يزالان في مكانهما، بينما تحتفظ طهران بعلاقات مع جماعات سورية يمكن أن تستخدمها منها في المستقبل.
كما أن الموقف الإقليمي للولايات المتحدة ليس مختلفًا كثيرًا عن الماضي. كانت أولويتا ترامب السياسيتان الرئيسيتان -الدعم القوي لإسرائيل وزيادة العقوبات على إيران، هما النهج المعتاد لمعظم أسلافه.
من المؤكد أن رغبة ترامب المعلنة في "الاستيلاء على" غزة جديدة، ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان هذا مخططًا جادًا أم إستراتيجية مساومة لإقناع "حماس: والقادة العرب. كما أن ترامب ركز اهتماماته ومصالحها– في ما وراء إسرائيل وإيران- خارج الشرق الأوسط.
مع ذلك، يبقى من الممكن أن تؤذن بعض التحولات الأخيرة بقدوم تغييرات كبيرة. كان سقوط نظام الأسد حدثًا زلزاليًا يشبه الإطاحة بصدام حسين في العام 2003 -التطور الذي قلب السياسة الداخلية والدولية للعراق رأسًا على عقب وبشكل كامل.
ما تزال هناك الكثير من المجهولات حول مستقبل سورية. وكما تُظهر الأحداث الدموية التي وقعت في الأيام الأخيرة في منطقة الساحل وغيرها، ما يزال من الممكن أن يغرق البلد في مزيد من الاقتتال، حيث أصبحت الآمال في قدوم سورية أكثر استقرارًا وشمولية الآن موضع شك.
وبالمثل، يمكن أن يؤدي إضعاف "حزب الله" إلى تغيير السياسة اللبنانية. وقد كسر الضعف الذي أصاب الحزب بالفعل جمودًا سياسيًا استمر لعامين بشأن انتخاب رئيس جديد، مما قد يساعد البلد على تجاوز الركود السياسي والاقتصادي الذي ساد في العقد الماضي. ولكن، كما هو الحال في سورية، ما يزال من السابق لأوانه معرفة ما سيجري.
التكيف مع الحقائق الجديدة
يشكل تحول سورية إلى حليف لتركيا، مع إمكانية إنشاء قواعد عسكرية تركية قيل إنه تمت مناقشتها بالفعل، تحولاً مهما آخر. سيكون من شأن مثل هذه النتيجة أن تمنح أنقرة موطئ قدم مادي في عمق بلاد الشام، ويمكن أن تزيد من التوترات المتصاعدة بين إسرائيل وتركيا.
ولكن، على الرغم من أن هذا تطور جديد، إلا أنه لم يظهر من العدم. كان نفوذ تركيا الإقليمي في تزايد منذ وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى سُدة السلطة في العام 2002، ولديها بالفعل وجود عسكري في قطر، وليبيا، والصومال، وشمال العراق وشمال سورية. ومن المؤكد أن تحويل دمشق من منافس إلى حليف هو شيء مهم، لكنه يبني على موقف تركيا القائم مسبقًا أكثر من كونها حدثًا تحويليًا بالكامل.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الاتفاق بين "قوات سورية الديمقراطية" الكردية السورية والرئيس المؤقت الجديد في دمشق، أحمد الشرع، على دمج القوات الكردية في الجيش الوطني السوري؛ إلى جانب دعوة زعيم "حزب العمال الكردستاني" المسجون، عبد الله أوجلان، الجماعة الكردية إلى إنهاء حربها المستمرة منذ 40 عامًا مع تركيا، ينطويان على إمكانية أن يكونا تطورًا تاريخيًا. لكنّ من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت أي من الخطوتين ستتمكن من تجاوز مرحلة الإعلان.
هل يرقى هذا كله إلى ما يمكن وصفه بأنه "نظام جديد" للشرق الأوسط؟ كما لاحظ البروفيسور الراحل فريد هاليداي ذات مرة، فإنه يحدث مرة واحدة في عقد من الزمان على ما يبدو أن تقع أحداث تهز الجغرافيا السياسية في المنطقة بطريقة تدفع المراقبين إلى إعلان قدوم حقبة جديدة.
في السابق، بدا أن أحداث "الربيع العربي" التي اندلعت في العام 2011، و"الحرب على الإرهاب" التي بدأت في العام 2001، و"حرب الخليج" التي اندلعت في العام 1991، و"الثورة الإيرانية" في العام 1979، كلها ستؤدي إلى تغيير إقليمي عميق. ولكن، كما حذر هاليداي أيضًا، على الرغم من الصعود والهبوط في حظوظ قوى معينة بفعل هذه الأحداث، كانت هناك في معظم الأحيان استمرارية أكثر مما كان من التغيير.
ويُحتمل كثيرًا أن يكون هذا صحيحًا بالنسبة للتطورات الجارية اليوم. يبدو أن حرب غزة وتداعياتها في لبنان وسورية قد عززت موقفي إسرائيل وتركيا بينما أضعفت موقف إيران وحلفائها. وفي الوقت نفسه، يبدو أن عودة ترامب جعلت الولايات المتحدة أقرب إلى إسرائيل، وزادت من معارضتها لإيران.
ولكن، لا ينبغي المبالغة في اعتبار هذا افتراقًا جوهريًا عن الماضي. لقد اضطرت معظم القوى في المنطقة، كما هو الحال في الخليج ومصر، إلى التكيف مع الظروف الجديدة، لكن مواقفها السياسية لم تتغير بشكل جذري. ولدى إسرائيل سجلها السيئ في استخدام قوتها العسكرية لزيادة نفوذها الإقليمي. وتركيا آخذة في توسيع نفوذها أيضًا. لكن هذا كله كان تدريجيًا أكثر من كونه مفاجئًا. وبينما تراجعت إيران؛ فإنها ليست بالضرورة خارج المعادلة.
من المؤكد أن المنطقة تعرضت لهزة شديدة. ولكن، يبقى أن نرى ما إذا كان هذا يشكل "نظامًا جديدًا" حقًا. ولعل ما قد يتبين في نهاية المطاف أنه الأكثر أهمية على المدى الطويل هو الأحداث التي تجري خارج الشرق الأوسط: رد الفعل العالمي على رئاسة ترامب. يمكن أن تكون لأي إعادة ترتيب للتحالف الأميركي الأوروبي، أو إعادة تأهيل روسيا على مستوى العالم، آثار كبيرة غير متوقعة على المنطقة.
*كريستوفر فيليبس Christopher Phillips: أستاذ العلاقات الدولية في "كوين ماري"، جامعة لندن، حيث يشغل أيضًا منصب نائب العميد. وهو مؤلف كتاب "المعركة من أجل سورية" The Battle for Syria، المتاح من (مطبعة جامعة ييل)، والمحرر المشارك لكتاب "ماذا بعد بالنسبة لبريطانيا في الشرق الأوسط" What Next for Britain in the Middle East، المتاح من (آي. بي تاوريس).
*نُشر هذا المقال تحت عنوان: Is this the dawn of a new era in the Middle East?