عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Feb-2020

الثورة الإصلاحية اللبنانية والحاجة إلى قيادة وطنية - د. عمر القيسي
 
الجزيرة - بحسب عزمي بشارة، تتميز ثورات "الربيع العربي" عن غيرها من الثورات التاريخية من حيث كونها إصلاحية (الحبيّب، 2014). هي ليست ثورات "من فوق"، أي عمودية تقودها سلطات الدولة النافذة لفرض تصحيحات بنيوية أو تعديلات مسلكية عبر مؤسسات الحكم القائمة وأجهزته. وهي ليست كذلك ثورات "من تحت"، أي أفقية تقودها فئات شعبية واسعة لإسقاط النظام الاجتماعي القائم بكل أركانه السياسية والاقتصادية والسوسيو-ثقافية. فالثورة الإصلاحية ثورةٌ محافظة، بمعنى أنها تنأى بنفسها عن جدل الإيديولوجيات السياسية وشؤون الدولة الخارجية لتعمل على تحقيق اختراق مدني ديمقراطي يسمح بتوليد بدائلَ ناجعة للأوضاع الحياتية المتردية.
 
في لبنان، على سبيل المثال، تبدت الصفة الإصلاحية لثورة السابع عشر من تشرين الأول في مسارين متوازيين: الأول يحيّد الثورة عن الصراعات الإقليمية الدائرة ويحصر مطالبها في خانتي تحسين مستوى معيشة اللبنانيين وتغيير الطبقة السياسية الحاكمة، والثاني يحمي الثورة من المجتمع نفسه عبر نفي أي تعارض بين أدبيات المواطنة الحديثة والموروثات الدينية والأخلاقية الخاصة بكل طائفة على حدا. يتكفل هذان المساران بجعل الثورة الإصلاحية اللبنانية، كغيرها من الثورات العربية، ثورة باردة، أي بمنطلقات ومتبنيات خالية من الاعتبارات ما-فوق-البنيوية، سواء داخلية-داخلية كالخلاف الهوياتي بين جماعات الأمة الواحدة أو داخلية-خارجية كالتضارب بين شبكات المصالح الجيو-استراتيجية للقوى العظمى.
 
هذا من حيث تعريف "إصلاحية" الثورات العربية. أما من حيث المخاض والمآلات، فالسؤال هو: لماذا تتهاوى الثورة الإصلاحية سريعا، كما حدث في مصر واليمن وغيرها من الدول التي شهدت ثورات مضادة؟ من وجهة نظري، إن أحد أهم العوامل الباطنية يكمن في غياب، أو تغييب، الحاجة إلى قيادة مواطنية تتشكل من مختلف شرائح الناس وتعمل على تحقيق ثلاثة أمور: التقليل قدر الإمكان من حالة الخوف من المجهول التي تطرأ على المجتمع في أعقاب ثورة تكسرُ النمطيات السائدة، إعداد الخطط للمرحلة الانتقالية – "اليوم التالي" على حد تعبير "مجموعة الأزمات الدولية" – والأمر الثالث، وهو الأهم، التصدي للاعتبارات ما-فوق-البنيوية، بدل تجاهلها، وذلك عبر مفاوضة السلطة السياسية لانتزاع حق المشاركة الفعلية في إدارة علاقات الدولة الخارجية وسبل تعاطيها مع الأزمات الإقليمية والعالمية حاضرا ومستقبلا.
 
وجود هكذا قيادة مواطنية ضروري لضمان شرعيتين أساسيتين. الأولى هي شرعية داخلية تؤمن اتساعا أفقيا للثورة يتمثل في انتساب أغلبية شعبية وازنة إليها. أما الثانية فهي شرعية خارجية تؤمن اتساعا عموديا للثورة يتمثل في اقتناع أركان المجتمع الدولي، وعلى رأسها القوى المنخرطة في صراعات عسكرية – في الحالة اللبنانية، إيران ومن خلفها روسيا، والمملكة العربية السعودية ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية – بإمكانية التعامل مع الشريك المحلي الجديد، أي القيادة المواطنية، بشكل لا يتعارض مع مصالحها الاستراتيجية. هذه الشرعية الأخيرة مهمة للغاية، إذ لن يكون بمقدور أية ثورة إصلاحية، مهما حشدت من تأييد داخلي، أن تحقق غاياتها بدون وعي عميق بواقع تموضع البلاد التاريخي وفهمٍ لهواجس "الآخر" المسيطِر، الذي لن يقبل بإقحام مناطق نفوذه في "الفوضى"، مهما كانت الأسباب.
 
ما بعد تعويم السلطة لذاتها بذاتها، عبر الإتيان بحكومة اختصاصيين ومستشارين لا تعكس مقاصد الثورة الإصلاحية وطموحات القوى الثورية، ليس كما قبله
ما الذي إذا منع قيامَ قيادات مواطنية تجمع الناس على المصلحة العاملة وتقدم نفسها بديلا شرعيا وفعالا لحماية المجتمع وتحمل مسؤوليات الدولة؟ بالنظر إلى الثورة الإصلاحية اللبنانية، يمكن تعيين مانعين رئيسيين. أوجزهما كالتالي:
 
١. مانع متّسم بالديمومة (المجتمع في عين الثورة): بالإضافة إلى منظومة اقتصادية قائمة على انتفاعية رأسمالية وأوليغارشية متوحشة، عمدت الدولة اللبنانية العميقة، وهنا أعني التحالف الوثيق بين رجال الأعمال والسياسية والدين، إلى مأسسة الجهل في المجتمع عبر إعاقة النمو في الحياة الحزبية والانفتاح على قيم الديمقراطية والمدنية والمواطنة. منذ الاستقلال عام 1943، اقتصر التثاقف السياسي بين اللبنانيين على ترداد الخطاب الطائفي (الأكثروي أو الأقلوي) للزعامات السياسية وترجمته متى دعت الحاجة إلى عنف أهلي، طويل أو قصير الأمد. باختصار، إن "التوافقية" الهشة التي طبعت سلوك الزعامات وأقصت الشعب وكرهته بكل ما يتصل بالحزبية والأحزاب هي العدو اللدود، ما-فوق-البنيوي، للإصلاحية الثورية التي ينادي بها المنتفضون في الساحات.
 
دليلي على جريمة التجهيل هذه التي مُورِسَت باسم "التوافقية" على مدار عقود هو الكم الهائل من اللقاءات والندوات التي لا تزال قوى الثورة من تجمعات وهيئات وجمعيات مدنية تنظمها بهدف تثقيف المجتمع وكشف حقيقة ما حل به من ركود اقتصادي وانهيار مالي وعزلة عربية ودولية تكبر يوما بعد يوم – تداعيات ملموسة تُشمِلُها حركة "مواطنون ومواطنات في دولة" في مصطلح "الإرث اللعين." فلأن المجتمع في عين هذه القوى جاهل، بمعنى مُغَيَّب، مخدوع، مُفترَى عليه، تراها منكبة بكل طاقاتها وكوادرها على تنويره بدل قيادته. ليس هناك إذا من وقت كاف، ولا موارد تنظيمية، ولا وعي جمعي متقدم يسمح بانبثاق قيادة مواطنية تستلم دفة الحكم أو تشارك، وهو أضعف الإيمان، في إدارة الإنهيار.
 
٢. مانع متّسم بالعرضية (الثورة في عين المجتمع): كل ما قامت به قوى الثورة حتى الآن من مظاهرات واحتجاجات وأنشطة ودروس مجانية للمواطنين في شتى المجالات ضروري جدا ويجب أن يستمر. لقد نجحت هذه القوى بالفعل في ابتكار نموذج ديمقراطية بديلة، تشاركية-تشاورية، يشبه إلى حد كبير تلك النماذج التي ظهرت في كندا، إيرلندا، أيسلاند وغيرها من الدول الغربية كردة فعل على الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨. ولكن هذا وحده لا يكفي، إذ لا يجوز للثورة الإصلاحية أن تحصر مهامها في التثقيف والتنوير.
 
أفهم وأتفق تماما مع كل الذين حذروا في بدايات الثورة من الوقوع في فخ انتخاب ممثلين عن الحراك يشكلون قيادةً تفاوضُ السلطة المتمثلة بزعاماتها السياسية. فالسلطة، كما قيل وقتذاك، ستقتنص هذه الفرصة لتماطل في الاستجابة للمطالب الشعبية بحجة تعثر المفاوضات، الأمر الذي قد يؤدي مع الوقت إلى إجهاض الثورة. أما اليوم، فالمشهد أكثر تعقيدا وخطورة. أصبحت الثورةُ أكثر من أي وقت مضى حاجةً عضوية، لا ترفية، في عين المجتمع. لذلك لا بد، أولا، من إعادة النظر، وفيما هو أبعد من الاعتبارات اللوجستية والأمنية (على أهميتها)، في تأثير الانتشار الواسع لمفاهيم مثل "اللاقيادة" (leaderlessness): فهل حقا تتناسب هكذا مفاهيم عرضية مع متطلبات المرحلة والأهداف البعيدة للثورة؟ ثانيا، لا بد من المباشرة في التفكير الجدي بإمكانية تشكيل قيادة مواطنية. هنا، تجدر الإشارة إلى أن الأدبيات البحثية المتوفرة حول مفاهيم القيادة في مختلف مضامير العلوم الاجتماعية – أذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، دراسات التنظيم البشري وبيئات العمل ودراسات القيادة والتخطيط في التربية والتعليم – تقطع بأن للقيادة محددات وقوالب تطبيقية عديدة، فردية وجماعية وتجاوزية، أي متخطية للأضداد والثنائيات التقليدية. فكما أبدعت قوى الثورة في إرساء دعائم ديمقراطية تشاركية-تشاورية حقيقية، باستطاعتها أن تبتكر نموذجَ قيادةٍ مواطنية فريدا من نوعه، كأن يُبنَى مثلا على أساس لامركزية موسعة (أي ائتلاف أو مؤتمر وطني يضم عددا من المجالس المحلية التي تتمتع بالاستقلال الذاتي).
 
برأيي، ما بعد تعويم السلطة لذاتها بذاتها، عبر الإتيان بحكومة اختصاصيين ومستشارين لا تعكس مقاصد الثورة الإصلاحية وطموحات القوى الثورية، ليس كما قبله. فبينما يتركز حديث السلطة اليوم على اللجوء إلى "صندوق النقد الدولي" كعملية جراحية لا مفر منها، يعمل آخرون، كالهيئات الاقتصادية و"جمعية مصارف لبنان"، على تقديم اقتراحات وحلول لا تقلّ نيو-ليبراليةً من حيث إضرارها بالصالح العام. ماذا الثورة فاعلة إذا؟ أليس من واجبها العمل سريعا، على الجبهتين الداخلية والخارجية، لحماية حقوق وأرزاق وأموال اللبنانيين من مخاطر أي خيار كارثي محتمل؟ وألا يستدعي ذلك وجود قيادة؟