الراي
مباشرة بعد لقاء الرياض الذي جمعَ وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو, بنظيره الروسي سيرغي لافروف في 26 شباط الماضي. بعد مُكالمتين هاتفيّتين أجراهما دونالد ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (بناءً على «طلب ترامب» كما حرصَ الكرملين على التذكير) لم يُخّفِ الوزير الأميركي/روبيو في حديث لموقع «بريتبارت» (وهو موقع ويب أميركي ينشر محتوى «سياسي متطرف» من مصادر عدة, من بينها أخبار ومقالات رأي» وفق ويكيبيديا") أن إدارة الرئيس ترامب تهدِف إلى «فصل روسيا عن الصين", مُستدرِكاً القول: إذا اصبحت روسيا شريكاً دائماً للصين, فهذا يعني ـ تابعَ روبيو ـ أن قوتيْن نوويتيْن مُتحالفتين ضد الولايات المتحدة, والأفضل ـ أضافَ ـ هو الاّ تصبح روسيا مُعتمدة بالكامل على الصين. ثم لم يلبث روبيو أن لفتَ إلى أن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين, ستُحدِّد ملامح هذا القرن, وسيكون ـ اردفَ ـ هناك تناقض بينهما وربما «مواجهة مباشرة ليست عسكرية, ولكن بطرق أخرى", ختمَ روبيو.
من هنا يمكن النظر إلى الأوهام الأميركية «المُتجددة» هذه الأيام, من منظور تاريخي وتطورات جيوسياسية «دراماتيكية» شهِدتها سبعينيات القرن الماضي, في عهد الرئيس الأميركي الجمهوري/ريتشارد نيكسون ومستشاره للأمن القومي (الذي سيُصبح لاحقاً وزيراً للخارجية) هنري كيسنجر, عندما نجحت «دبلوماسية البينغ بونغ» في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وبيجين الزعيم الصيني/ماو تسي تونغ, مُستفيدة بل مُستثمَرة واشنطن في الخلاف «العقائدي» الشديد, بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد السوفياتي في عهد نيكيتا خروتشوف (الذي خلفَ جوزيف ستالين بعد وفاته في آذار عام/1953).
ليس ثمَّة مقارنة بين المشهديْن نظراً للتطورات المُتسارعة بل غير المسبوقة, التي شهدتها ثمانينيات القرن الماضي وخصوصاً تسعينياته, ليس فقط بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي وانهيار حلف وارسو وتبعثر منظومة الدول الاشتراكية, فضلاً عن «عشرية قاتمة السواد» عاشتها روسيا في عهد رئيس سكير فاسد وأرعن اسمه/بوريس يلتسين, بل خصوصاً في صعود الصين وبروزها كقطب مُنافس (وإن حرصت بيجين منذ عهد «المُصلح الرؤيوي» دينغ شياو بينغ بعد وفاة الزعيم «ماو", على القول: ان صعودها سِلمي, وأنها ما تزال تُعرِّف نفسها كدولة «نامية", فضلاً عن مقولته التاريخية بـ(أنه لا يهم «لون» القط أسودَ كان أم أبيضَ ما دام «يصطاد الفأر").
ناهيك عن علاقات الشراكة مُتعددة الأوجه والمجالات, التي نسجتها الصين مع روسيا الاتحادية بعد وصول بوتين الى الكرملين أوائل القرن الحالي, مُتزامناً ذلك مع تغوّل الإمبريالية الأميركية, التي ظنت (وكل ظنونها أوهام وخطايا) أن «فجر» القرن الأميركي قد بزغ, وأن العالم بات رهن إرادتها, ولم يعد ثمة مُنافس قادر على تحدّي «القطب الأوحد", الذي استطاع «دحر الشيوعية» وطيّ سبعة عقود هو عمر أول دولة اشتراكية في العالم, ذهبت وأدبياتها عن المساواة والعدالة الإجتماعية والسلام الى «ذمة التاريخ».
ليست موسكو كما بيجين في صدد الوقوع في الفخ الذي يحاول ترامب وأركان إدارته من اليمينيين المولعين ورئيسهم بالحروب... نصبه لهما, في وقت يكاد فيه حلف الناتو إطباق الحصار على روسيا, ناهيك عن التحشيد العسكري الأميركي في المُحيطين الهادئ والهندي, مع قيام تحالفات عسكرية بين «أعداء» القرن الماضي, كما في تكتل «أكواد» الرباعي الذي يضم الولايات المتحدة, اليابان, أستراليا والهند, فضلاً عن حلف عسكري «ثلاثي» أميركيٍ كوريٍ جنوبي, ياباني, وعودة القواعد العسكرية الأميركية إلى الفليبين, وتواصل إستفزازات الأسطول الأميركي في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايون, ناهيك عن رفع إدارة «ترامب» جزءاً من عبارة كانت منشورة على موقع الخارجية الأميركية منذ خمسة عقود, تنص على ان واشنطن ("لا» تعترِض على إعتبار «تايوان جزءاً من البر الصيني"), فقامت بشطب «لا». كخطوة إستفزازية مقصودة وواضحة الدلالات السياسية أيضاً.
أين من هناك؟
تواصل الزعيمان الصيني والروسي الهاتفي، عبَّرا خلاله ـ من بين أمور أخرى ـ عن متانة شراكتها العميقة والراسخة ورغبتهما الأكيدة في تعزيزها والإرتقاء بها إلى مصاف الشراكة الاستراتيجية, وفي ذلك رسالة إلى مَن يعنيهم الأمر في واشنطن خصوصاً وأيضاً في الاتحاد الأوروبي الذي تحاول رئيسته أورسولا فان دير لاين اللعب على وتر خلافات بروكسل الأخيرة مع إدارة ترامب, عبر إسترضاء الصين (وخصوصاً «إستمالة» الهند) إلى جانبها بالضد من روسيا، بعد تقارب واشنطن مع موسكو, وهو أمر نحسبه غير وارد صينياً, ناهيك عن الهند التي نسجت علاقات يمكن وصفها بالجيدة مع إدارة بايدن كلك مع إدارة ترامب, وهي/نيودلهي على ثقة بأن «نجمها» الذي بزغَ في العقدين الأخيرين «آخذ في السطوع", وليس من مصلحتها أن تدير ظهرها لموسكو, أو أن تضع كل «بيضها» في سلّة واشنطن.