الغد
في أساسيات الصراع بمنطقة الشرق الأوسط تحديدا، وفي العالم أجمع امتدادا، هناك ثلاثة مشاريع تتصارع فيما بينها، يساعدها في ذلك غياب مشروع عربي موحد قادر على مواجهة ما يستهدف المنطقة بكل مكوناتها.
تفصيلا، هناك المشروع الصهيوني الذي يصنف بأنه الأقوى والأشد خطرا، لما يتمتع به من نفوذ، وما يمتلكه من دعم توفره الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، تحت تأثير الصهيونية العالمية.
ويوفر هذا المشروع الدعم المطلق للكيان الإسرائيلي، الذي تبناه منذ ما قبل وعد بلفور، وحتى اللحظة، ويضع مسألة الحفاظ على تفوقه العسكري والاقتصادي والسياسي على رأس أولوياته، ويقدمه على حاجات شعوبه.
وثانيا، المشروع الفارسي الذي تتبناه إيران ضمنا، وتسعى من خلاله إلى توسيع دائرة نفوذها وصولا إلى كافة أرجاء المنطقة، إما مباشرة، أو من خلال أذرع تتبناها تأسيسا، وتسمينا وقطف ثمار.
أما ثالثا، فهو المشروع العثماني، الذي تتبناه تركيا، وتوفر له سبل الدعم بوسائل متعددة ويتمثل بالسعي إلى إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية التي أطاحت بها الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف الحسين بن علي، والتي تعرضت لاحقا إلى مؤامرة من قبل الحلفاء بدعم من الصهيونية العالمية، وكانت النتيجة غرس الكيان الصهيوني كسرطان في قلب المنطقة العربية المستهدفة.
المشاريع الثلاثة تتقاطع في الكثير من المحطات، وتلتقي في بعضها، لكنها تتنافس فيما بينها ضمن المنطقة العربية مستخدمة نفس الأدوات أحيانا. المشروعان الفارسي والعثماني يرفعان شعار القضية الفلسطينية والمدينة المقدسة كروافع لهما للتغلغل في المنطقة وصولا الى ما يضمرون من أهداف حقيقية، وتؤسسان لنوع من التوسع تحت هذين الشعارين. أما المشروع الصهيوني فيسعى من خلال نفوذ الدول الغربية العظمى وصمت» الشرقية» إلى» عد أنفاس» الدول العربية والحراكات الرسمية والشعبية، وتوفر للكيان ما يزيد على قوة الدول العربية والإسلامية مجتمعة. وتتدخل في شؤون تلك الدول بما يعيق إمكانية تحررها من سطوة الغرب، ونفوذه الاقتصادي والسياسي، وبصورة صنفها البعض بأنها أشبه بـ«القدر»، الذي يصعب الانفكاك منه. والذي غيّب مشروع التحرر العربي، وحوّله إلى مشاريع متعددة محدودة التأثير غير قادرة على مواجهة ما يهدد المنطقة، وعلى رأسها اللوبي الصهيوني الذي يغذي الأطماع الصهيونية ويعمق نفوذها.
هذا السياق، ليس بعيدا عن تلك المشاريع، ولا عن تطورات الموقف في سورية، فما يجري قد يكون جزءا من ترتيب الشرق الأوسط، وامتدادا لما حدث في غزة، ومن بعدها لبنان، وما قد يمتد إلى مواقع أخرى من المنطقة.
فمع التسليم بأن السوريين عانوا كثيرا من حكم عائلة الأسد، وأنهم ضحوا كثيرا من أجل الوصول إلى ما وصلوا إليه قبل أيام، وأنهم يستحقون التهنئة بانهيار النظام والبدء ببناء نظام حكم يأملون أن يوفر لهم قدرا من الحرية، وينقلهم إلى مستوى من العيش الذي يتناسب مع إمكانات الدولة السورية كدولة غنية بالموارد، وشعب مثقف قادر على إدارة موارده وتوظيفها في توفير الرفاه المنشود.
فما عانته الدولة السورية من اختصار لكل عناصرها بشخص الرئيس والعائلة، وما تميز به النظام من تعنت تحول إلى سوء إدارة في شتى المجالات، وإلى اتفاقات مع دول أخرى مكنتها من رهن كافة المقدرات وأعطتها حق التصرف بإمكانات الدولة لعقود طويلة لقاء توفير الحماية للرئيس ولنظامه، كلها أمور تؤشر إلى صعوبة الوضع، وعلى تعقيدات تعيق جهود الثورة الجديدة في الوصول السريع الى الهدف المنشود.
ويبدو أن المشاريع الثلاثة كانت على تماس مع الملف السوري، ليس دفاعا عن الدولة والشعب السوري، وإنما من أجل مصالحها البعيدة. حيث ترى إسرائيل في القوة السورية ما يهدد مصالحها، وبالتالي فإنها تسعى إلى تقليم الأظافر السورية أولا بأول. بحيث يتم ضرب القوة السورية بغض النظر عن نظام الحكم فيها. فقد ضربت سورية أيام حكم بشار، وما زالت تضرب أهدافا منتقاة حاليا. وترجمت أطماعها بعد نجاح الثورة باحتلال منطقتين هما المنطقة العازلة في الجولان المحتل، وجبل الشيخ بحجة أن الجانب السوري قد أخل باتفاق الهدنة لعام 1974، وسحب قواته المسلحة من محاذاة تلك المنطقة وترك « فراغا» يمكن أن يشكل تهديدا لأمن إسرائيل.
أما جبل الشيخ، فيخضع أصلا إلى التقسيم بين سورية ولبنان، وأقدمت إسرائيل على احتلال الجزء السوري منه لتحقق بذلك حلما راودها منذ عشرات السنين، ما مكنها من مراقبة وتهديد كافة الأراضي السورية.
وبتلك الخطوة تكون إسرائيل قد احتلت ما مساحته 305 كيلومترات مربعة، منها 235 كيلومترا مربعا مساحة المنطقة العازلة في الجولان المحتل، وسبعون كيلومترا مربعا من أراضي جبل الشيخ. وفتحت الباب أمام أطماعها بالتوسع ومضاعفة تلك المساحات باحتلال أراض جديدة من الجولان كمناطق عازلة بدلا من تلك التي سطت عليها.
أما على مستوى صراع المشاريع، فقد بدا أن إيران تحولت إلى الحلقة الأضعف في أعقاب التطورات الأخيرة في لبنان وغزة، وقد تكون مرشحة للخروج من «التصفيات»، أو لتجميد مشروعها لمراحل لاحقة تحت تأثير مصالحها التي باتت تتطلب ما يفوق الانحناء وما قد يصل إلى مستوى الانبطاح أمام العاصفة القوية التي حدثت على هامش تطورات الملفين اللبناني والفلسطيني، باعتبارهما ملفا واحدا. والدليل على ذلك تخليها مع روسيا عن حليفها بشار، وما يشاع عن تخليها عن حزب الله وحركة حماس.
فما تمتلكه من أوراق لم تعد مؤثرة في ضوء ما حدث لحزب الله، وفي الملف اللبناني ككل وما يتردد عن توجهات تخصها للرئيس ترامب جعلها تختصر الكثير من الزوائد التي تحيط بمصالحها وفي مقدمة ذلك تجميد مشروعها أو التخلي عنه تماما.
وهذا يعني اختلافا في شكل وحدة التنافس، حيث ترى تركيا أن لديها من الأوراق السورية ما يدعم مشروعها، مع إدراكها بأن المشروع الصهيوني قد وظف الكثير من تلك الأوراق وترجمها إلى منجزات على الأرض وأصبح أحد أبرز الرابحين من تلك التطورات. وأن كافة العوامل المساعدة الأخرى بما فيها الورقة الروسية قد تراجعت أهميتها وتحولت في الكثير من تفاصيلها إلى خدمة المشروع الصهيوني.
ويبقى الأمل قويا بأن تعيد الدول العربية تجميع ودراسة أوراقها ضمن بوتقة واحدة وصولا إلى مشروع موحد قوي يستطيع مواجهة المشروع الصهيوني أولا، والعثماني ثانيا، والفارسي في حال عاد إلى تجميع قوته.