آفاق
سعد حتر
عندما يُفرض السلام المنشود بقعقعة السلاح على مذبح العدالة والشرعية الدولية، يغدو هدنةً هشّةً مهدّدة بالنسف في أول شرارة تغيير بموازين القوى واهتزاز الوضع القائم.
الظلم يولد القهر، والقهر يقدح جمرا تحت الرماد قابل للاشتعال ولو بعد قرون. هكذا علمّنا التاريخ. فأطول سلام نسبي “Pax Romana”، دام قرنين (27 ق.م – 180 م) تحت سطوة إمبراطورية روما ونظام قمع فيالقها على الشعوب المستعمرة، وعندما انفجرت الثورات على الأطراف، انهار المركز واستعرت الحروب على رقعة الشطرنج الكونية.
بعد قرون، فرضت “سيدة البحار” ما يوصف ب “Pax Britannica” بين القرنين الثامن والتاسع عشر، قبل أن يتهاوى ذلك السلام عندما طالبت الشعوب المستعمَرة بحريتها، وظهرت قوى جديدة لا تؤمن بعالمٍ تُدار موازينه من لندن.
أمريكا الخصم والحكم
رئيس الدولة العظمى اللاهث وراء جائزة نوبل لبِس ثياب الحمل أخيرا لوقف نزف الدم في غزّة بعد سنتين من مشاركة بلاده العضوية في أكبر وأطول مجزرة كونية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية قبل ثمانية عقود.
ولم ينسَ ترامب تذكير مجرم الحرب بنيامين نتنياهو بالدعم العسكري اللامحدود وانحياز أمريكا العسكريتالي لماكينة الإبادة الصهيونية. “زودناكم بالأسلحة، وأجدتم استخدامها”، تكلّم ساكن البيت الأبيض الجمهوري في تل أبيب. نتنياهو ذكّر الإسرائيليين من جانبه: “ما من رئيس أمريكي فعل لإسرائيل ما فعله (ترامب)”.
صرخة حق
عندما تجمهر قادة ومسؤولو 20 دولة في شرم الشيخ، حذّر الملك عبد الله الثاني مجددا من تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني وطالب باستعادتها فوق أرضه وفق الشرعية الدولية. فبينما كان الإقليم يرحّب بالهدنة المتأخرة، نبّه الملك إلى أن شرق المتوسط “سيواجه مصيراً مظلما ما لم تُستأنف عملية سلام وصولاً إلى قيام دولة فلسطينية”
عقيدة ترامب
منذ ولايته الأولى (2016-2020)، يعمل الرئيس الجمهوري على تقويض أسس السلام العادل، ناسفاً القرارات الأممية في انحياز لإسرائيل وتجاهل فاضح لحقوق الفلسطينيين. إقراره بسرقة الجولان وتثبيت الاحتلال فوق هذه الهضبة السورية، لا يبشر باستدامة سلام عابر للأجيال. كذلك أمره بنقل سفارة بلاده إلى القدس – أواخر ولايتها الأولى، تغاضيه، بل تشجيعه الكيان على ابتلاع ما بقي من الضفة الغربية واستباحة سماء لبنان وأرضه.
دروس التاريخ
“التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه غالبًا يتشابه في الإيقاع”، حكمة مارك توين تنطبق على مآلات سراب سلام زائف وتفجّر الحروب اللاحقة.
أحدث دروس التاريخ الحرب الكونية الثانية (1939-1945)، التي اندلعت على وقع غبن بائن في معاهدة فرساي 1919 ضد ألمانيا القيصرية عقب هزيمتها في الحرب الشمولية الأولى (1914 – 1918). فبعد أن كانت تستهدف بسط حقبة من السلام النسبي، حملت المعاهدة بذور حربٍ أشد فتكا ودموية. هكذا أسهمت غطرسة المنتصرين وإملاءاتهم في استفزاز برلين المتحولة تدريجيا إلى الهتلرية النازية فاشتعلت النار في القارة العجوز وسائر العالم لسِت سنين عجاف.
تأرجح بين هدنة وسلام دائم
اليوم، يعيد التاريخ ذاته بتناغم مماثل. واشنطن – وريثة الإمبراطوريات الآفلة – تفرض معادلات سياسية بمنطق القوى في استباحة للعدالة وهيئاتها الأممية.
في السياق، تُساق شعوب المنطقة صوب “تسوّية” مجحفة تكرّس هيمنة إسرائيل وتنحر حقوق الفلسطينيين، تحت غطاء “سلام واقعي” و “انتعاش اقتصادي” بعد شلاّل دم ومجاعة مبرمجة.
من يتجاهل دروس التاريخ يدفع ثمن غبائه. فالشعوب المقهورة لا تنسى وترفض التخلي عن حقها المسلوب. والعدالة المؤجلة لا تموت، بل تنفجر حين تُغلق أمامها السبل.
ما يُفرض بالقوة، يُنسف بالقوة. وقد يُحقّق السلاح نصرًا مؤقتاً فوق الأوجاع والكرامة المكبوتة. لكنه لا يصنع سلامًا دائمًا. فالقوة التي تفرض صمتًا اليوم، تزرع غضبًا للغد.
وحدها العدالة تُنهي الحروب. وفي غيابها، تبقى المعاهدات والمواثيق مجرد قشرةٍ فوق بركان. وحين ينفجر، لن تُجدي كل الصفقات والتحالفات.