عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Oct-2019

وائل غنيم.. الثائر سابقا والضحيّة - خولة شنوف
 
الجزيرة - مُذ ظهرَ وائل غنيم، بعدَ اختفائهِ لسنوات، بصورة وهيئة جديدة، وأنا أتابعُ منشوراتِه وأحيانًا بثَّهُ المباشر على صفحته على فيسبوك، ليس لأنّني من المُعجبات به أو بفكره أو توجهاته، فأنا لم يحدُث وأن اتفقتُ معه سياسيا إلاّ في ثورة يناير، ولا لأنني أناصرُ الثورات العربية، وأجدُ في رموزها، وإن اختلفنا في باقي الأفكار، نقطةَ التقاءٍ كفيلةً بأن نكونَ رفاق طريقٍ واحد، بل لأنّ التغيير الذي طرأ على حياةِ هذا الشّاب المصريّ المُقبل على الحياة يبعثُ على الدهشةِ والاستغراب. وائل الشّاب الثلاثينيّ، المهندس والمدير الاقليميّ السّابق لشركة غوغل في مصر، والذي كان أحدَ رموز ثورة يناير ومَن أطلق شرارتها الأولى عبر صفحته: كلُّنا خالد سعيد، وائل صاحب الهِندام المُرتب والهيئة المتوازنة، والكلام اللّبق كما كان يبدو سابقًا، خرج حليقَ الرأس والحاجبيْن، عاري الصدر، يرقصُ ويشتِم ويلفُ سجائر الحشيش أمام الملأ.
 
على الرّغم من أنّه صرّح في أكثرَ من فيديو بأنّه بخير ولا يشكو من شيء، مُطمِئنًا مَن يسأل عنهُ من المتابعين، إلاّ أنّني لا أُخفيكم بأنّني تأثرتُ كثيرا، بل بِتُّ ليلتَها أراقبُ ما يكتبُ ويقول وأحاولُ أن أطمئنَ على عقله، هل يكتب ما يكتبهُ يا تُرى، ويقول ما يقوله وهو بكاملِ قِواه العقلية أم أنه جُنَّ حقا، كحالِ الكثير من الشّباب الذين أودتْ بهم زنازينُ السّجن والظلم والاستبداد، ووضع البلاد إلى حالةٍ يُرثى لها من الجنون، أنا التي كتبتُ يومًا، وطني الذي جُنّ من الحزن بعد أن توفي فارس المتشرّد الذي كان يجولُ شوارع الجزائر مردّدا: "راني زعفان"، ثمّ ينام على طرقاتِها، متّكئًا على جُرح الوطن حينًا، وعلى خيباتِه حينًا آخر، أعلمُ تمامًا كيف يمكنُ للوطنِ أن يرمي بأبنائهِ البارّينَ نحو حافّة الجنون.
 
ليسَ على رأس أحدنا خيمة يغطّي بها رأسَه عن مصائب الدنيا، أو عن الاكتئاب المميت، أو الانحراف عن الطريق، ولسنا ضامنين للنهاية التي قد نُنهي بها حياتنا، ولسنا مُوكلّين بأخذ دور الرّب على الأرض
ذاتَ ليلة أخرى، تعثّرتُ ببثٍّ مباشر لوائل في ساعاتِ اللّيل المتأخرة، يتكلّمُ فيه بصوتٍ منخفضٍ خوفًا من أن يستفيق أبناؤه الذي بدا وكأنّه أبٌّ رحيمٌ حريصٌ على نومهم وقلقهم، فضّلتُ عدم النوم وقرّرتُ الاستماعَ لما يقول، من جملة ما قاله شدّني ردّه على مَن لامه لأنّه يتناول الحشيش ويُجاهر بذلك علنًا بقوله أنّه بدأ بالتعاطي بعد الثورة عن طريق صديقين، وأنّه من الطبيعي أن يقوم بذلك فأنتم، ويقصد مَن هم خلفَ الشّاشات، تدخلونَ لحساباتي على مواقع التواصل وتشتمونني وأهلي وحياتي شتائم كبيرة، فكان من الطبيعيّ أن أنسى تلك المصائب والكلمات بالحشيش.. قالها بلهجةٍ مصرية، وبصوتٍ يرتجفُ ويدٍ ترتجف هي الأخرى، ولا تقدرُ حتّى على لفِّ سيجارة الحشيش تلك.
 
لم تذهب كلماتُه من بالي، وأعادتني إلى حوارٍ كان قد تمّ مع أحمد الشقيري، حينما سُئِل عن صديقه أحمد الفيشاوي الذي قدّم معهُ برنامجًا دينيًّا شبابيا ثمَّ تحوّل هو الآخر لعالمِ الإدمان والحشيش، مُعلّلا ذلك بأنّ الفيشاوي تعرّض للرّفض والذم من المشايخ الذين كان يلجأ لهم، فوجد في الوسط الفني حضنًا يحتمي إليه، بعد أن عانى هو الآخر من قسوةِ المجتمع ومن ذمّ الوسط الديني الذي بدلا من أن يحتويه، دفعهُ بأسلوبه لعالمٍ أكثرَ بشاعةً وقتامة.
 
البعضُ منّا لا يكفُّ عن أذى غيره، ويعتقد بأنّهُ نُصّبَ شيخًا أو داعيةً من وراء الشّاشات، يقطعُ رحمةَ ربّه عن هذا، ويشمتُ بذاك، وينعتُ أخاه بالكافر والفاسق وينسى أنّ الذي سترهُ قادرٌ على أن يجعلَه يومًا ما عِبرةً لمن لا يعتبر. البعض منّا يُوجّه سِهام كلامهِ كالرّصاص، ويعتقدُ أنّ من يقرأ كلماته ليس بشرًا، بقلبٍ وإحساسٍ وشعور وأنّ هذا الإنسان، الذي قد نختلفُ معه في الكثير، بحاجةٍ إلى مساعدةٍ واحتواءٍ، لا قَصَاص، فلو تعلّمنا كيف نحتضنُ مَن جار عليه الزمان، وكيف نُواسي من خنقهُ الصّمت طويلا، حتى أذاه، ومن تحوّل الظلم في صدرهِ لأمواجٍ، ومَن ثقُلتْ مشاعرُه حتى اختنق منها، لما وصل وائل وأحمد وسِواهم لما وصلوا إليه اليوم.
 
ليسَ على رأس أحدنا خيمة يغطّي بها رأسَه عن مصائب الدنيا، أو عن الاكتئاب المميت، أو الانحراف عن الطريق، ولسنا ضامنين للنهاية التي قد نُنهي بها حياتنا، ولسنا مُوكلّين بأخذ دور الرّب على الأرض، حتى نمنحَ الجنة لفلان ونمنعها عن علاّن.. نحن هنا نبحثُ عن طريقةٍ نحافظ بها على إنسانيتنا في عالمٍ تحوّل كلُّ مَن فيه إلى وحوشٍ بشرية، فلا أنت ولا أنا نعلم كميةَ الألم والصّراعات التي يحاربها البعض منّا بكلّ ما يملكُ من قوة ليبقى صامدًا، ولا أحدَ منّا يدري حجم التخبّط الذي يُعاني منه غيرنا، ولا قسوةَ الصّمت الذي يتحول إلى أذى عندما يجدُ صاحبُه نفسَه مُجبَرًا على ذلك.
 
ها قد انتهيتُ من كتابة هذا المقال، وذهبتُ لأتفقدَ حسابي، فوجدتُ وائل يبكي بحُرقةِ على أنغام أغنية "شبيك نسيتيني" مُوجّها كلماتِها الجميلة والمعبّرة لمصر. وحدَها أوطانُنا مَن تدفعنا للبكاء والجنون والكفر بها وبحبّها، ووحدنا نحن من نعودُ في كلّ مرة ترفضُنا فيها لنقفَ على أعتابها راجينَ منها التفاتةً أو ربّما حُضنًا، وكأنما ثمّةَ لعنةً تلاحقنا منذ الأزل إلى يومنا هذا، هي لعنةُ الوطن والبكاءِ عليه، ولا شيءَ سِواهُما.