عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Feb-2019

هل من العقلانیة اتخاذ العقل مرجعیة مطلقة؟ (2) - أسامة شحادة
 
الغد- وصلنا إلى أن الإسلام لم یعرف مشكلة تعارض النقل / الوحي مع العقل، بل إن العقل في  الإسلام والوحي موضع تكریم وتقدیر بما یناسبھ، بخلاف ما وقع في الأمم السابقة التي تصادم فیھا النقل / الوحي مع العقل بسبب تحریف النقل والوحي، فحصل تصادم مع العقل السلیم فیما حرف من النقل، كما أن اعتماد البعض على عقولھم فیما لا تحسن وتطیق جعلھا تعارض ما بقي من الوحي والنقل فیما بین یدیھا.
ومع توسع انتشار الإسلام وتعدد الشعوب والأقوام الداخلة فیھ أو المنضویة تحت جناحھ زادت حسن نیة، مساحة الاحتكاك والجدال والنقاش مع عقائد جدیدة ومتنوعة ومختلفة، بعضھا كان ب وكثیر منھا كان بغرض الإفساد والتخریب، وقد تنوعت مواقف المسلمین من ھذه الأفكار والعقائد السابقة والمخالفة، وھو ما سنوضحھ بعد قلیل.
لكن یجدر بنا ھنا التنبیھ إلى أن احتكاك الإسلام والمسلمین بالعقائد والدیانات الأخرى كان موجوداً زمن النبي صلى الله علیھ وسلم، فبدایةً نشأ النبي صلى الله علیھ وسلم في قریش، بینّ قوم مشركین وفیھم بعض الحنفاء، وفي فتوتھ سافر إلى الشام وعرف أن ھناك من یدین بالنصرانیة، وكان أخوالھ من المدینة التي تحوي بعض الیھود.
وبعد البعثة حصلت لھ نقاشات مع بعض الیھود والنصارى، منھا حواره مع عبد الله بن سلام، الذي سألھ عن ثلاثة أشیاء لا یعلمھا إلا نبي، فلما أجابھ عنھا أسلم، ومنھا حوار النبي صلى الله علیھ وسلم مع وفد نصارى نجران حول عیسى علیھ الصلاة والسلام، ونزل بسببھا قولھ تعالى:
َ ”إن مثل ُ عیسى عند الله كمثل آدم خلقھ من تراب ثم قال لھ كن فیكون“ (آل عمران: 59 ،(ویكثر
في القرآن الكریم استخدام قیاس الأولى في المحاججة العقلیة.
والخلیفة الثاني الفاروق، رضي الله عنھ، حین فتح بیت المقدس حاوره كبیر نصارى القدس حول القضاء والقدر فأفحمھ الفاروق.
فلما دخل في الإسلام أقوام شتى، ومن عقائد مختلفة، ووصلت للمسلمین أفكار فلسفة الیونان
بمختلف مدارسھا، ومنھا منطق أرسطو، وجرت محاورات وجدالات عقائدیة كثیرة نتج عن كل ذلك تأثر بعض المسلمین ببعض أفكار الآخرین، ومن ھنا بدأت تتشكل ظاھرة المتكلمین، والتي ستتطور لاحقاً لتصبح فرقا فكریة مختلفة ومتصارعة برغم زعمھا اعتماد العقل كمرجعیة لحسم الخلاف!
وھنا برز موقفان متباینان ھما: موقف أئمة الإسلام من التابعین وأتباعھم وتلامیذھم، الذین رفضوا الأفكار الوافدة الباطلة والمعارضة للدین وعقیدة التوحید، وبقوا على ھذا الموقف طیلة ُ التاریخ وللیوم، والذین یعرفون بلقب ”أھل السنة“ طیلة التاریخ، وموقف غالب المتكلمین والفرق والكلامیة الذین تعددت وجھات نظرھم ففي البدایة اعتمدوا على عقولھم وما تلقفوه من الاخرین
مع رفضھم للفلسفة ومنطق أرسطو في البدایة ولعدة قرون، ثم جاء من المتكلمین من قبل منطق
أرسطو دون الفلسفة، وفریق ثالث رضي بالمنطق والفلسفة جمیعا! وعن موقف المتكلمین المتناقض یقول د. سامي النشار في كتابھ ”مناھج البحث عند مفكري الإسلام“: ”فكرة شائعة لدى
مؤرخي الفكر الإسلامي -وخاصة المستشرقین- وھي أن المتكلمین الأوائل كانوا رجال دین استخدموا منطق أرسطو في جدلھم اللاھوتي، ومع أن ھذه الفكرة فاسدة تمام الفساد“.
وھنا ظھرت الفریة التاریخیة أن أھل السنة وأتباع السلف یرفضون العقل! وأن ھناك تعارضا بین النقل/ الوحي والعقل!
وحقیقة ھذه الفریة كما یقول د. محمد السید الجلنید في كتابھ ”منھج السلف بین العقل والتقلید“:
”إن بدایة المشكلة المثارة ضد المنھج السلفي تبدأ من ھذه النقطة: نقطة التشنیع علیھم بأنھم
یرفضون العقل كمصدر للمعرفة، ما داموا یرفضون الأخذ بمفھوم الفلاسفة للعقل! وكأن المفھوم الفلسفي للعقل ھو وحده الصواب، وما عداه یكون خطأ ومرفوضاً؟!“.
وتفكیك ھذه الفریة وإثبات بطلانھا سھل واضح رغم ما غطاھا من طبقات كثیرة من الأكاذیب والدعایات المضللة وساعدھا بدون قصد جھود بعض المخلصین غیر المؤھلین لتفنید ھذه الفریة فشاعت وذاعت وأصبحت مسلّمة عند كثیر من الناس دون وجھ حق.
رفض علماء الإسلام والسنة كالإمام الشافعي ھذه الأفكار الوافدة لأنھا باطلة في نفسھا أولاً ولأنھا تخالف العقل ثانیاً، ولأنھا تعارض الإسلام ثالثاً، ورفض الفلسفة والمنطق لم یختص بھ أھل السنة، بل ھو موقف غالب الاتجاھات الإسلامیة رابعاً، ولأنھا تدمر المجتمعات وتعطلھا خامساً، وبیان ذلك في النقاط التالیة:
1 – ھي دعوى باطلة، فحین وصلت ھذه العلوم الفلسفیة الوافدة من الیونان وغیرھم إلى المسلمین زعموا أنھا ضروریة لكل العلوم، وأنھ لا یمكن تحصیل العلوم بدونھا! ومعلوم أن الفلسفة الیونانیة تنقسم لطبیعیات وریاضیات وإلھیات (میتافیزیقا)، وغالب كلامنا ھو على نقدل منھا
ونقض الإلھیات (المیتافیزیقا) لكونھا تمس الدین، أما الطبیعیات والریاضیات فقد قب المسلمون ما ثبت صوابھ ورد ّ وا الخطأ فیھا وصوبوه.
وعرض علماء أھل السنة ھذه المزاعم على میزان العلم والعقل فوجدوا أن منطق أرسطو لم ُیعرف إلا قبل المیلاد بثلاثة قرون، بینما ھناك حضارات كبیرة وضخمة كانت قبل وجود الیونانیین وفلسفتھم وأرسطو ومنطقھ! كحضارات وعلوم أھل الصین والھند ومصر، والتي فاقت علوم الیونان بمراحل كثیرة، بل حتى أبو الطب ”أبقراط“ وصل لكثیر من علم الطب دون حاجة ومعرفة بمنطق وفلسفة أرسطو! وبذلك ثبت عند علماء السنة بطلان ھذه المزاعم، وأن ھذه أشیاء لا تتوقف علیھا المعرفة ولا یتقید بھا العلم، وھو الموقف العلمي الیوم من فلسفة أرسطو الصوریة التي تھتم بعالم الخیال وتھمل عالم الواقع والفعل.
َ وبذلك نسأل: من الأكثر عقلانیة أتباع الفلسفة والمنطق أم أئمة الإسلام وأتباع السلف؟
ِ ولم یكتف علماء أھل السنة بذلك، بل قالوا لھؤلاء المجادلین عن الباطل: ألا ترون لعلم النحو والعروض والفقھ والأصول والحدیث قد قامت وازدھرت عند المسلمین ونحن لم نعرف فلسفة ومنطق الیونان وأرسطو؟!
بل ینقل الإمام السیوطي عن الإمام الشافعي أنھ جعل منطق أرسطو ھو سبب للجھل والتفرق
والنزاع بدلاً من العلم والاجتماع، فقال: ”ما جھل الناس ولا اختلفوا إلا لتركھم لسان العرب ومیلھم إلى لسان أرسطوطالیس“، وفعلاً فإن من نظر في جدالات المتكلمین والمتفلسفین سیجد بحراً من الجھل ومحیطاً من الخلاف.
2 – أما مخالفة الفلسفة الیونانیة ومنطق أرسطو للعقل فھذا أصل فلسفتھم عبر تصورھم وتعریفھم للعقل بأنھ جوھر ٌ قائم بنفسھ، أي أن العقل شيء مادي!! وھذه مغالطة كبرى لیس لھا سند من عقل أصلاً، فكیف بنوا علیھا فلسفتھم بحیث لما بطلت ھذه المغالطة بطلت كل فلسفتھم كما ھو حال الفلسفة الصوریة البائس الیوم، بینما العقل في الوحي وعند علماء المسلمین ھو
صفة ومعنى ولیس مادة، وھو غریزة فطریة في الإنسان، وھذا ما توصلت لھ الفلسفة الغربیة الحدیثة كما عند دیكارت ولالاند.
ولقد أدرك ھذا المسلمون منذ القدیم، فھذا أبو العباس الناشئ المعتزلي (توفي 293ھـ) نقض
الفلسفة والمنطق وعجز أنصارھما عن الجواب علیھ، حتى استشھد بكلامھ أبو سعید السیرافي
(توفي 368ھـ) على أحد أرباب نقلة الفلسفة والمنطق للمسلمین وھو متّى بن یونس النصراني (توفي 328ھـ) فقال لھ: ”حدثنا ھل فصلتم قط بالمنطق بین مختلفین، أو رفعتم الخلاف بین اثنین، أتراك بقوة المنطق وبرھانھ اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة!!“.
ومن مجازفات الفلسفة والمنطق اعتبار جواھر الأشیاء متساویة لا اختلاف فیھا، فجوھر الثلج یماثل جوھر النار! وأن الخلاف بینھما في الأعراض أي الصفات، وھذا جنون فاضح.
وبھذا یتضح أن أئمة الإسلام وأتباع السلف أكثر عقلانیة من اتباع الفلسفة والمنطق!
ومن أراد التوسع في معرفة مخالفة رائد المنطق أرسطو للعقل والعلم وأن منطقھ أورثھ مئات الأخطاء في الطبیعیات والریاضیات فضلاً عن ضلال كل إلھیاتھ فلیرجع إلى كتاب الدكتور خالد كبیر علال (جنایات أرسطو في حق العقل والعلم). وللحدیث تتمة.