عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Apr-2019

دعوى تعارض النص والمصلحة - د.أحمد الريسوني

 

الدستور - من المعلوم أن الشيخ نجم الدين الطوفي قد ذهب إلى افتراض تعارض المصلحة مع النص، وهو يرى –في هذه الحالة- أنه يجب تقديم المصلحة على النص. وهذا عنده خاص بمجالي المعاملات والعادات، دون العبادات والمقدرات. قال: «أما المعاملات ونحوها، فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر. فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا. فإن اتفقا فبها ونعمت وإن اختلفا، فإن أمكن الجمع فأجمع بينهما وإن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها، لقوله : «لا ضرر ولا ضرار»، وهو خاص في نفي الضرر، المستلزم لرعاية المصالح، فيجب تقديمه، ولأن المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة كالوسائل. والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل».
وقد احتفى كثير من المعاصرين بهذا الافتراض، وذهبوا يروجون له وينوهون به، ويلتمسون له التخريجات، ويضعون له الأمثلة والتطبيقات.
 
1. مسألة الصيام
ذهب الرئيس التونسي السابق ومؤسس الدولة التونسية الحديثة، الحبيب بورقيبة إلى أن صيام رمضان يسبب تعطيل الأعمال وضعف الإنتاج، ودعا العمال (سنة 1961) إلى الإفطار حفاظاً على الإنتاج الذي يدخل ضمن الجهاد الأكبر. فهل الصيام حقاً يتعارض مع مصلحة الإنتاج ومصلحة النهوض الاقتصادي؟ لعل أول ما كان ينبغي قبل إطلاق الدعوى السابقة هو إجراء دراسة شاملة ودقيقة عن مدى تأثير الصيام في الإنتاج سلباً وإيجاباً، وهو ما لم يقع، فبقي الادعاء مفتقراً لأي أساس علمي صحيح.
ثم، هب أنه تحصلت لدينا ملاحظات وانطباعات مفادها أن الصيام يسبب نقصاً ما في الإنتاج، فهل ذلك راجع إلى الصيام ذاته، أم إلى عادات وممارسات خاطئة يمارس فيها الصيام أو تمارس فيه، وليست من ضروراته ولا من شروطه الشرعية؟
فإذا كان العنصر الثاني هو السبب فقد برئت ذمة الصيام، وكان أولى بمن دعا إلى ترك الصيام أن يدعو إلى تغيير تلك العادات والممارسات السلبية، وهي دعوة أقرب إلى الواقعية والتحقيق والاستجابة من دعوة شعب مسلم إلى التخلّي عن ركن من أركان دينه.
ثم ألم يكن بالإمكان الاستفادة من الصوم في تنمية الإنتاج وزيادته. فالصوم مثلاً يلغي وجبتين غذائيتين تقعان عادة في وقت العمل: هما وجبة الإفطار ووجبة الغداء، والصوم يوفر على العمال والموظفين وقت هاتين الوجبتين. وهو وقت يمكن الاستفادة منه لصالح العمل والإنتاج، وكم من العمال والموظفين نراهم يحضرون إلى أماكن عملهم ثم يختلسون أوقاتاً لتناول الإفطار. ثم يأتي وقت الغذاء فيأخذون وقتاً أوسع، سواء بصفة قانونية أو غير قانونية. وفي الحالتين فإن الصيام يوفر هذا الوقت لصالح العمل.
ثم إن الصيام يمنع المدخنين عن التدخين ويوفر الوقت الضائع فيها. ومعلوم أن التدخين يأخذ من صاحبه دقائق متكررة كل يوم، قد تفوق ساعة كاملة من ساعات العمل.
وإذا تحدثنا عن التدخين الذي يتوقف في شهر رمضان، فلنتحدث عن التدخين وصلته بالإنتاج في غير رمضان، ذلك أن أي غيور حقاً على العمل والإنتاج، أو أي باحث محايد لا يمكنه أن يغفل عن النقص الكبير في الإنتاج الذي يتسبـب فيـه التدخين، سواء بشكل مباشر يتمثل في ضياع وقت التدخين، أو بأشكال غير مباشرة تنتج عن الحالة النفسية والبدنية والصحية للمدخنين. فلست أدري لماذا لم يتفطن الزعيم المذكور إلى هذه الآفة المحققة من آفات الإنتاج والعمل؟ لقد تغافل عن شيء يُرى ويلمس ويشم، وانتبه لشيء لا يرى ولا يلمس ولا يشم! (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46).
ومع ذلك فلنذهب مع هذا الافتراض إلى نهايته، ولنقل: إن للصيام أثراً في نقص الإنتاج، وقد نجد من يقول: إن الصلاة في وقت العمل تسبب هي الأخرى نقصاً في الإنتاج، وهو ما يتعارض مع المصلحة ويضر بها 
وهنا أذكر بما قدمته قبل قليل عن المفهوم الصحيح للمصلحة وإلى الوجوه المتعددة التي ينبغي النظر منها إلى أي مصلحة.
فإذا فرضنا أن إنتاجنا يصاب في رمضان بنقصان كمي يصل مثلاً إلى العشر (10%) أو نصف العشر (5%) فماذا نربح من الصيام؟
هذا يحيلنا إلى الفوائد الكائنة أو الممكنة في الصيام، سواء من الناحية الروحية، أو التربوية السلوكية، أو الصحية، ولا أتحدث هنا عن الثمرة الأخروية. وهذه الفوائد، أو المصالح، قد تكفلت ببيانها وتفصيلها كتاباتٌ كثيرة قديماً وحديثاً. ولذلك لا أريد الخوض فيها هنا. فأكتفي بالإشارة إليها والتذكير بها، لأقول: إن أي عاقل يريد أن يتحدث عن النقص الذي قد يسببه الصوم في الإنتاج، لا بُدّ أن يضع في الميزان كل ما يجلبه الصوم لصاحبه أو لغيره، من فوائد ومصالح مادية أو معنوية عاجلة أو آجلة، وحينئذٍ سيختلف الوزن والتقويم قطعاً.
وحتى على صعيد الإنتاج نفسه، لا بُدّ أن نستحضر أن الصوم –إذا أُدّي على حقيقته- يعلّم صاحبه الإخلاص في العمل، والتخلي عن الغش والزور والاختلاس. وكل هذا في صالح الإنتاج كما لا يخفى. وهي آثار إيجابية تستمر طيلة السنة أو طيلة العمر، وليست منحصرة في أيام الصيام.
 
ومن طريف ما يتذكر ويذكر في هذا السياق ما حدثني به أحد أقاربي من أن رجلَ أعمال إسبانياً كان يحتفي بعماله المغاربة الذين كانوا يصومون ويصلون، وكان يشجعهم على الصيام، ويعتني بتهييء طعام فطورهم وسحورهم، لأنه كان يجد من الإخلاص والجدية والأمانة ما لا يجده في غيرهم من المسلمين غير المتدينين.
 
2. مسألة الحجاب
يقصد اليوم بالحجاب –على خلاف الاستعمال القرآني- اللباس الساتر الذي تلبسه المرأة المسلمة المتدينة، ليغطي كامل جسدها ما عدا الوجه والكفين. وقد يراد به بصفة خاصة تغطية الرأس والشعر.
ويرى عدد من المعاصرين العصريين أن هذا اللباس لم يعد اليوم ملائماً للعصر، ولا لمكانة المرأة وتحررها واقتحامها لمجالات الحياة العامة كافة، من مدارس وجامعات، ومن معامل وإدارات، ومن أسفار وتجارات. ويرون أن هذا الحجاب يعوق المرأة ويعرقل تقدمها وتحضرها.
ومرة أخرى، فأنا لن أناقش المسألة من الناحية الفقهية بنصوصها وأحكامها، فكل ذلك معلوم لدى الخاص والعام. ولكني أناقشها مناقشة مصلحية. فهل النصوص والأحكام المتعلقة بالموضوع تعارض المصلحة؟ وهل هي نفسها تخلو من المصلحة؟
إذا تجاوزنا الخطابات المبهمة والشعارات التحديثية ذات التأثير الإشهاري الجذاب، فإننا لا نجد أي مصلحة حقيقية راجحة يعوقها الحجاب ويفوّتها. وأحسب أن الواقع المعيش والمشاهد في العالم كله، في العالم الإسلامي، وفي العالم الغربي، أصبح اليوم يشكل أبلغ رد على كل ما يقال عن السلبيات المدّعاة للحجاب. فلم يعد الحجاب قريناً للجهل والأمية والخنوع والتخلف، بل أصبح في حد ذاته رمزاً للتحرر والتمسك بالحقوق والمبادئ، ورمزاً للثبات والمعاناة في سبيلها. وله معانٍ رمزية لم تكن له فيما سلف يوم كان شيئاً عادياً يقبله الجميع ويسلم به الجميع.
فالحجاب اليوم أصبح مصدر حرمان ومضايقة واستهزاء لكثير من المتمسكات به ولذلك صار التمسك به رمزاً للتمسك بالمبادئ والحقوق، ومقاومة الضغوط والتعسفات. فالمرأة المتحجبة هي امرأة متحررة ومناضلة بمجرد تسكها بحجابها في وجه الضغوط والمضايقات كافة.
وهذا فضلاً عن كون ذوات الحجاب يوجدن اليوم بجدارة وكفاءة في كل موقع من مواقع العلم والعمل الراقية المتقدمة، ولا يختفين إلا من المواقع التي يُمنعن منها، أو لا تليق بكرامتهن وخلقهن.
هذا من جهة الادعاء بأن حجاب المرأة يكرس تخلفها ويعوق تقدمها ويفوت مصالحها.
وأما من جهة أخرى، فإن الحجاب تظهر قيمته ومصلحته اليوم أكثر من أي وقت مضى. وبيان ذلك أن المرأة اليوم تنجرف مع تيار كاسح يكاد يختزل المرأة وقيمتها ووظيفتها في الجسد المزوّق المنمّق المعروض في كل مكان.
والمرأة على نطاق واسع ـ وعت أو لم تَعِ، قصدت أو لم تقصد - واقعة هي أيضاً في فتنة الجسد، وفي فتنة اللباس، أو بعبارة القرآن الجامعة في فتنة التبرج. وجميع المتبرجات -من حيث يدرين أو لا يدرين –هن عارضات أزياء وعارضات أجساد. وكثيرات منهن يعشن يومياً –وكلما خرجن إلى العموم- في منافسة استعراضية لا تنتهي، في الشوارع والإدارات، وعلى الشواطئ وفي المتنـزهات، وفي المدارس والجامعات، وفي المناسبات والحفلات. وكمن يصب الزيت على النار، يقوم عدد لا يحصى من الرجال بالإغراء والتشجيع، وتقوم مؤسسات تجارية وإعلامية وسياحية بتغذية هذا التوجه وتأطيره والمتاجرة به بشكل مباشر أو غير مباشر.
هكذا تدخل المرأة – الضحية الأولى لهذا المنـزلق - في دوامة تنحط فيها كرامتها وقيمتها، وتنحط فيها اهتماماتها وانشغالاتها،حيث تستهلك قدراً كبيراً من وقتها ومن مالها ومن تفكيرها في تدبير شؤون جسدها ولباسها ومظهرها.
والحقيقة أن الذي أصبح يعوق المرأة اليوم عن رقيها وتحررها، وعن دراستها وعملها، ليس الحجاب، بل هو الانغماس في التبرج والتزين والهواجس الاستعراضية.
وهذا كله لم يعد إثباته بحاجة إلى الروايات المتواترة، أو الاعترافات والشهادات الخاصة، بل أصبح واقعاً طافحاً يعرف ويشاهده من أحب ومن كره.
هذا الواقع الرديء الذي تنجرف فيه المرأة انجرافاً يخرج بها –أو يهبط بها- من التكريم إلى التجسيم، هو الذي يقف اليوم في وجهه اللباس الإسلامي، الذي يمنع المرأة من الانزلاق في المنحدر المذكور، ويمنعها من أن تصبح مفتونة أو فاتنة بجسمها وأعضائها، أو بلباسها وحليها، أو بأصباغها وعطورها، أو بمعاملاتها وعلاقاتها.
إن اللباس الساتر المتعفف، المعتدل المتواضع، أصبح اليوم ضرورة لوقف انحدار المرأة، ومساعدتها على إعلاء قيمتها وهمتها، وعلى استعادة كرامتها وتوازنها. وتلك هي المصلحة حقاً.