الغد
لا يُعد "نتنياهو" مجرد زعيم يميني متطرف، بل تجسيداً لعقل جمعي بناه الكيان المُحتل منذ قيامه على أسس الخوف والخطر والتهديد الدائم، فبات مستوطنيه يجدون في الحرب استقرارهم السياسي و"بوتقة صهرهم" المجتمعي، وفي السلام مصدر قلق وجودي يُربك عقيدتهم الأمنية. وهذا يُفسر عجز التظاهرات الشعبية الحاشدة عن اقتلاع رئيس الحكومة المتطرفة من مقعده، لأن مقصدها استرداد الأسرى أولاً، وليس وقف جرائم الإبادة في غزة، فالهُدن الطويلة تفضح هشاشة المشروع الصهيوني وعمق مأزقه الداخلي.
لطالما خشي المستوطنون اليهود الاعتماد على السلام لتحقيق أمنهم، لأن ضمانات الأمن التي توفرها اتفاقيات التهدئة والسلام، رغم أنها حققت معظم مطالبهم على الصعيد الفلسطيني، تُعد بالنسبة إليهم ظرفية قد يبددها حدوث تغيير في النظام العربي الإقليمي، وسط المناهضة الشعبية العربية والإسلامية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولأنهم، أيضاً، ألِفوا على مدى سبعة عقود ونيف استمرار الأمر الواقع الذي يُمكنهم من احتلال الأراضي العربية وضمها، بدعم أميركي غربي مُطلق.
ويُدرك "نتنياهو" جيداً أن الخوف أكثر أدوات الحكم فاعلية داخل الكيان المُحتل، ولهذا يعمل على تغذية الشعور الدائم بالتهديد، ويجعل من "الوجود اليهودي في خطر" شعاراً يُبرر العدوان والعنف، ويُنجي ائتلافه الحكومي من التفكك، وبذلك يظهر أمام ناخبيه "المسيح المُخلص" الذي يُنقذهم من كل أزمة ويعيدهم إلى منطقة راحتهم النفسية: الحرب، حيث لا أسئلة عن العدالة أو الأخلاق، بل عن البقاء فقط. وبهذه المعادلة؛ يتحول السلام عندهم إلى بؤرة تهديد للمشروع الصهيوني، بينما يُمثل "نتنياهو" الحارس الأمين له.
ومع التوجه لمزيد من التشدد العقيدي الصهيوني، مقابل صلابة المقاومة كرد فعل طبيعي على القهر والظلم وإنكار الحقوق الشرعية؛ فإن نزعة التطرف القومي الديني أضحت راسخة بعمق داخل الكيان المُحتل ومُنتجة لبيئة مجتمعية طاردة للسلام والتعايش، وتفضل الهروب إلى "نتنياهو"، على كُره، والاحتماء بحكومته المتطرفة، خوفاً من أي اتفاق سلمي من شأنه أن يُهدد مفاصل كيانهم المُتصدع أكثر من الحرب نفسها.
ويُمثل المستوطنون المتدينون المتشددون أبرز المواقف المناهضة للتهدئة، لأن التسوية السلمية تُقوض سرديتهم الزائفة، في ظل مجموعة الفتاوى الحاخامية التي تُعطي الحق لجنود الاحتلال بعدم تنفيذ الأوامر إذا ما كانت ستؤدي إلى الانسحاب من ما يسمونها "أرض إسرائيل التاريخية"، وفق مزاعمهم.
ولهذا؛ يجد مفهوم "الضم" الكامل للضفة الغربية قاعدة مجتمعية صهيونية عريضة، حيث يستند أنصاره في رؤيتهم إلى أحكام الهالاخاة التي تؤكد، بحسبهم، على أن يهودا والسامرة (الضفة الغربية) جزء من "أرض إسرائيل التاريخية" وتحريرها يمثل تطبيقاً للوصايا اليهودية التي ترفض تسليمها للحكم الأجنبي، بينما أسس أنصار ما يسمى "المبادلة" (أي الأرض مقابل السلام) نظريتهم على حجة أن الوجود والحياة اليهودية يعدان القيمة العليا، ولو تعرضا إلى الخطر نتيجة الاحتفاظ بالأراضي التي تحررت حتى لو كانت يهودية فيجب عندها المبادلة.
وبرز رأي داخل الصهيونية الدينية يرى أن الدولة علمانية، وبالتالي فإن سيادتها على تلك الأراضي مسألة سياسية وليست دينية، فيما يتم تنفيذ "الوعد الإلهي" في "أرض الميعاد" من خلال اتباع الوصايا الدينية، معتبرين أن نتائج حروبهم سياسية عسكرية وليست مقدمة "للخلاص المسيحاني". ولم يكن هذا الموقف "الحمائمي" دعوة للتخلي عن الأراضي المحتلة، بقدر ما كان تعرية لموقف الذين أضفوا شرعية دينية على العمل العسكري، إذ سرعان ما انتقل حزب "المفدال" (الحزب الديني القومي المتطرف) من معسكر التحالف لسنين طويلة مع أحزاب العمال إبان فترة اليشوف وفي العقدين الأوليين من قيام الكيان المحتل، إلى معكسر اليمين المتشدد ومقاربة فكر الليكود بمعارضة التخلي عن "أرض إسرائيل التاريخية" ومنع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ورفض حق العودة و"تقسيم القدس"، وذلك قبل أن يتم حله عام 2023 واندماجه مع الحزب الصهيوني الديني لتشكيل حزب "الحزب الديني الوطني – الصهيونية الدينية"، الأخطر على الإطلاق.
إذ مهما اشتدت الخلافات داخل الكيان المُحتل، فهي لا تمس جوهر المشروع الصهيوني الاستعماري التوسعي، القائم على مزاعم الحقوق التاريخية اليهودية في "أرض إسرائيل الكبرى" أو "التاريخية"، والتوسع الاستيطاني فيها، بخاصة في القدس المحتلة.
سيظل الكيان الصهيوني أسير عقلية الحرب، رغم أنه اليوم أكثر عزله من السابق، لأنها لم تعد مجرد خيار استراتيجي، بل أضحت ملاذاً سياسياً وشخصياً بالنسبة لنتنياهو، الذي يُتقن فن تحوير القلق الداخلي إلى أداة سياسية لتعزيز سلطته وإطالة حكمه، ومحاولة الفوز في الانتخابات المقبلة، وهو احتمال ليس مستبعداً.