الرسالة الملكية للمخابرات.. مضامينها وتوقيتها *محمود الخلايلة
الراي
لطالما شكّلت معادلة الأمني والسياسي في الأردن حاضنةً لعمل المؤسسات ضمن سياق تبادلي تكاملي، فرضته ظروف حكمت المحيط السياسي والجغرافي للمملكة في مفاصل عديدة، وتطلبت جهداً استباقياً تقدّم فيه الأمني لحماية السياسي.
ويدرك المتتبع لمسيرة المؤسسة الأمنية في الأردن أنها كانت الرديف للمؤسسة السياسية، وحارسة للإنجاز وداعمة له، ولم تكن في يوم إلا ضابطاً خفياً لإيقاع الأحداث، ورقيباً صامتاً يصحح مسار الأمور متى تطلّب الحال، ضمن بوصلةٍ تتوافق عليها مؤسسات الدولة التي تستلهم دوافع عملها من حكمة القيادة.
وحتّمت ظروف وسياقات زمنية نعرفها جميعاً أن المؤسسة الأمنية لم تمارس اسقاطاً لذاتها على أدوار وصلاحيات مؤسسات أخرى، بل عملت على ما أسماه جلالة الملك بـ«سد الفجوة والتصدي لملء الفراغ» وهي مهمة وطنية ضمن مفهوم وسياق الأمن الوطني الشامل «اجتهدت دائرة المخابرات العامة، مشكورة ومقدرة» في التصدي لها، بشهادة ملكية.
ويقدّم جلالة الملك، كما هو دوماً وأبدا، رؤيةً إصلاحيةً تقدمية، تشكل نبراساً تهتدي به المؤسسات، وتسير على ملامحه، ونهجاً تخطُ توجهاتها وفقاً لحدودهِ، وهو ما يطرحه جلالته اليوم في رسالتهِ لمدير المخابرات العامة، لوضع الأمور في نصاب المسؤوليات الوطنية، التي يجب أن تتحملها كل مؤسسة.
وحملت الرسالة الملكية في توقيتها ومضامينها إشارات لا يمكن وصفها إلا بالواضحة والتقدمية، والتي لا تحتمل تأويلاً ولا تفسيراً بغير مقصودها الأساس، بأن الوقت حان لتتفرغ المخابرات العامة لحملها الأمني ومهامها الاستخبارية في المقابل تتقدم المؤسسات الوطنية الأخرى خطوة نحو مسؤوليات مناطة بها ومطلوبة منها.
ولم يكن مستغرباً ربط جلالة الملك عبدالله الثاني هذا التوجيه بمئوية الدولة الأردنية، التي تستحق اليوم من مؤسساتها الراسخة والقائمين عليها استكمال مسيرة العمل الوطني التكاملي، دون بطء ولا ارتجاف ولا تردد ولا اتكالية.
ولعل المستغرب وغير المنطقي هو تصدي البعض تحت يافطة التحليل بفرد آراء بعيدة عن منطقية القراءة المتأنية للرسالة الملكية، التي حملت تحديداً للخطوط والحدود في المسؤوليات الوطنية لجميع مؤسسات الدولة، لا مؤسسة بعينها، وبما يضع الجميع مسؤولين ومؤسسات في نصاب العمل والمهام، التي تناط بهم.
وفي الأردن، على غيره من دول المنطقة والعالم، كانت المؤسسة العسكرية والأمنية حارساً للإصلاح وحامية للإنجازات، وهي وواقعاً حملت حوله الرسالة الملكية إشادةً وتقديراً لمنتسبيها، يقابله إدراك ملكي لأهمية أن تتركز الجهود لا أن تتداخل أو تتشتت، فالتحديات المحيطة بدولة بوضع الأردن في إقليمهِ تتطلب المزيد من مساحات العمل الأمني المتخصص، وهنا كانت «حبكة الرسالة الملكية» بوضوح.
الرسالة الملكية للمخابرات العامة تأتي اليوم لترسم إطاراً وطنياً إصلاحياً يجب أن يكون خطاً واضحاً تسير عليه مؤسسات الدولة مدنية وعسكرية وهي تدخل مئويتها الثانية، الأمر الذي يتطلب من الجميع اليوم بلا استثناء التمعن بالإشارات الملكية القادمة عبر رسالة سامية اختار جلالة الملك أن تكون موجّهة لجهاز وطني استخباري ومؤسسة أمنية عريقة لها سجلٍ نعتز به.
ولعل عملية التطوير والتحديث، التي يشهدها جهاز المخابرات العامة وأشاد جلالة الملك بما تحقق منها موجها لدفعها بوتيرة أسرع وخطى ثابتة، ليست بعيدة عن مسيرة التطوير التي تطال المؤسسة العسكرية والأمنية في الأردن، والتي هي بمثابة دليل على مؤسسية الإصلاح وشموليته وتدرجه.
ننظر اليوم، كما هي نظرتنا دوماً، للمخابرات العامة، جهازاً أمنياً رفيعاً أدى أدواراً وطنية في مفاصل من عمر الدولة، وملتزماً برؤية ملكية حَداثية ومتقدّمة، وجاءت الرسالة الملكية لتعزز مكانة الجهاز في منظومة الأمن الوطني الشامل القائمة على الاختصاص والمسؤوليات، ضمن بوتقة وطنية جامعة فيها التكامل هو العنصر الحاكم.