عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Aug-2025

شبح الإبادة الجماعية يخيم على فلسطين منذ العام 1907

  الغد

رون نايفلد؛ وكاتيرينا بانديني* - (أوريان 21) 27/8/2024
ليس الجدل حول الاسترشاد بالنموذج الاستعماري لفهم تاريخ الصهيونية -وبالتالي دولة إسرائيل- بالشيء الجديد. وإذا كان الفلسطينيون قد أثاروا تلك القضية منذ وقت بعيد، فإنها أثيرت بالفعل منذ بدايات الحركة الصهيونية كما تُظهر سلسلة رسائل منشورة في العام 1907 باللغة العبرية.
 
 
مؤلف مجهول، "حزمة رسائل من عامل شاب ذي نفس مضطربة"، ها-أولام، حزيران (يونيو) 1907.
 
كان النص الذي كثيرًا ما يُستشهد به في النقاش حول أهمية المنظور الاستعماري لفهم الصهيونية هو مقال زئيف جابوتنسكي الطويل "الجدار الحديدي"، الذي كان نشره العام 1923 بمثابة حجر الأساس لما تُسمى بـ"الحركة الصهيونية التصحيحية". وتتمثل أطروحته الرئيسية في ضرورة لجوء الصهيونية إلى العنف ضد السكان العرب في فلسطين، ويستمد تلك الضرورة من كونها مشروعًا استعماريًا يسعى إلى ترسيخ سيادة يهودية في فلسطين على حساب أصحاب الأرض الأصليين، والذين لا يسعهم -وفقًا له- إلا أن يعارضوا هذا المشروع بشدة، شأنهم في ذلك شأن أي سكان أصليين. وينافي هذا النص رواية الأجهزة الرسمية للحركة الصهيونية، التي سعت إلى التنصل من هذا البعد الاستعماري العنيف أو إخفائه.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي تتم فيها مناقشة هذه القضية داخل الحركة. فقبل ستة عشر عامًا من نشر هذا النص، وتحديدًا في العام 1907، نُشِرت رسالة في الجريدة الأسبوعية العبرية "ها عولام" (العالم)؛ الجريدة الرسمية للمنظمة الصهيونية العالمية، تُظهر أن النقاش حول إمكانية لجوء الصهيونية إلى العنف قد أثير بالفعل في تلك الحقبة. جاء ذلك بعد مرور ثلاث سنوات على وفاة تيودور هرتزل في العام 1904، وبعد عشرة أعوام من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، وبعد ثلاثين عامًا تقريبًا من بدء الهجرة الصهيونية إلى فلسطين ("عليا الأولى"، من العام 1881 إلى العام 1903) وتأسيس أولى المستعمرات الزراعية اليهودية "بتاح تكفا" و"جاي أوني". وهي الفترة التي أعقبت رفض الحركة الصهيونية "خطة أوغندا" ومعاودة تركيز جهودها على فلسطين.
الجيل الثاني من المستعمرين
بعد ذلك جاء الجيل الثاني من الحركة الصهيونية، الذي كان نتاجًا لمذابح الإمبراطورية الروسية بالإضافة إلى ردود الفعل الدولية ومظاهرات دعم اليهود. وقد بُنيت صهيونية أبناء ذلك الجيل على الحوار مع التيارات السياسية الأخرى -وخاصة الاشتراكية والثورية- التي جذبت الشباب اليهود. وتبنى هؤلاء القطيعة مع الدِّين الذي أصبحت خطاباته وممارساته بالية في نظرهم، خاصة لأنها تطيل أمد حالة المنفى، بينما يسعى الصهاينة بشكل أكثر صراحة إلى إرساء السيادة الوطنية. وكانت صهيونية موجة الهجرة الثانية -"عليا الثانية" (1903-1914)- أكثر نشاطًا من "عليا الأولى" وأكثر ميلًا إلى العنف، يشير إلى ذلك تأسيس منظمة "هاشومير" على سبيل المثال، وتعني "الحارس" بالعبرية.
ثم تطور المشروع الاستعماري وأصبح أكثر وضوحًا. في العام 1908، تأسست "شركة تطوير الأراضي الفلسطينية" (Palestine Land Development Company - PLDC) في لندن، ويعني اسمها العبري "هخشارات ها-يشوف" حرفيًا "إعداد المستوطنة". وكانت الشركة برئاسة آرثر روبين، وهو عالم اجتماع تلقى تعليمه في ألمانيا، وأدخل إلى الشركة مبادئ تنظيم العمل الحديث والأسلوب الإحصائي. وبحسب الباحث الإسرائيلي إيتان بلوم، دمج روبين الهاجس الديموغرافي، أي حاجة الحركة الصهيونية إلى جعل اليهود أغلبية في فلسطين، في نظام عنصري مستوحى من نظام تحسين النسل الألماني المتّبع في تلك الحقبة.(1) ولم يستهدف ذلك العرب الفلسطينيين فحسب، بل أيضًا اليهود المهاجرين من اليمن في عشرينيات القرن الماضي، الذين تم استقدامهم كعمالة رخيصة. كان الهدف المعلن للشركة التي يقودها روبين هو مساعدة المهاجرين اليهود الجدد، خاصة من أوروبا الشرقية، على الاستقرار في فلسطين كمزارعين، حيث قامت الشركة بشراء أراض وأقامت عليها مزارع. وفي الفترة نفسها، وُضعت تصورات لأشكال أخرى من الاستيطان غير الاستعمار الريفي بتخطيط "أحوزات بيت"، الذي أنشئ رسميًا في العام 1909 وأصبح أول حي في تل أبيب.
خلال تلك الفترة، تم تجريد العرب الفلسطينيين من ممتلكاتهم بوسائل اقتصادية تعد قانونية؛ حيث كان يتم شراء الأراضي من مُلاكها الغائبين الذين كانوا كبار الملاك المقيمين في لبنان أو سورية، وإجبار الفلاحين العرب على المغادرة -أحيانًا مقابل تعويضات مالية.
كانت تلك الحقبة أيضًا حقبة المُثُل الصهيونية المتمثلة في "الحرس العبري" و"العمل العبري". وهنا نتحدث عن غزو سوق العمل، حيث كان الشباب اليهود القادمون من أوروبا الشرقية يدخلون في منافسة مع العمال الفلسطينيين العاملين في المستعمرات الزراعية. وهي أيضًا الحقبة التي تم فيها استحداث اللغة العبرية المعاصرة ووضعها في خدمة الحركة الوطنية، وبالتالي أصبحت لغتها الرسمية. وقد اعتُبرت تلك النهضة اللغوية، التي تهدف إلى تجديد لغة الكتاب المقدس والأدب الحاخامي وفقًا للمعايير والنحوية الأوروبية في ذلك الوقت، جزءًا من النهضة الوطنية.
إلى صديق ماركسي
يوافق العام 1907 أيضًا الإصدار الأول لصحيفة "ها-عولام"، التي كان رئيس تحريرها ناحوم سوكولوف، وريث هرتزل في "الأمانة العامة للمنظمة الصهيونية العالمية". في ربيع العام 1907، نُشرت في القسم الأدبي سلسلة من 26 رسالة في أربعة أعداد متتالية، كان عنوانها: "مجموعة رسائل من عامل شاب ذي نفس مضطربة". وتحت العنوان نجد ما يلي بين قوسين: "دوّنها عامل في أرض إسرائيل". ويتحدث المؤلف، الذي ظل مجهولاً، إلى صديق طفولة يدعى ديفيد، وهو مثقف ماركسي حضري لم يغادر أوروبا.
يمكن قراءة هذه السلسلة وكأنها مسودة رواية عن التشكُّل، أو قصة بلوغ صهيونية. وتتعقب الرسائل التطور الروحي والجسدي لكاتبها؛ شاب ينتمي إلى موجة الهجرة (عليا) الثانية، منذ لحظة وصوله وشعوره الكبير بالفراغ، حتى اكتشاف "ذاته الجديدة": الفلاح المحارب الذي يحول "المحراث إلى سيف، والمجرفة إلى رمح".(2) وهكذا يصف التحول الذي طرأ على شخصيته في الرسالة التي تختتم السلسلة:
"قد تجدني عند السندان، أدُق وأحول المحراث إلى سيف، والمجرفة إلى رمح [...] في تلك اللحظة قد تنظر إليّ من بعيد، من أعالي الجبال، واقفًا، متكئًا على عقب بندقيتي، أنتَظر، وأراقب... تذكّر -أنا فلاح! ... وأنت، كن حراثًا في ظاهرك، ولتجر الحمية والنخوة في عروقك!".
تصف الرسائل السابقة حياة المؤلف في فلسطين، وأسفاره إلى المستعمرات، وأحلامه بالسيادة اليهودية. في لحظة ما نجده يسير مع أصدقائه إلى قمة جبل طابور في الجليل، حيث يتأمل وادي يزرعيل الخصب، الذي لم يكن بعد في تلك المرحلة تحت سيطرة المنظمات الصهيونية. ويرى العامل الشاب بوضوح أن الوادي مأهول ومزروع، ويشعر بالأسف لأنه ليس في أيدي الصهاينة (الذين حاولوا الاستيلاء عليه منذ نهاية القرن التاسع عشر). ويقول:
"كان الوادي يمتد أمامنا كسجادة حريرية متعددة الألوان، وبه الكثير من الحقول الخلابة. وكل حقل صغير تزرعه أيادٍ رشيقة يلمع من بعيد مثل باقة من الزهور... بينما أتأمل هذا المشهد الرائع على قمة الجبل، استيقظ داخلي ألم... حنين رهيب. وددت لو أبتلع الوادي كله وأحتضنه وأقدمه هدية رائعة لشعبنا الذي لا يقل عنه روعة... وادي يزرعيل! هل ترى إلى أي مدى هو قريب منّا... لماذا هو ليس في أيدينا؟ لماذا أرى هذه الصور القاتمة من بعيد، المتمثلة في قطعان البدو؟ ليس لأحد غيرنا الحق فيه!".
حرب الإبادة ضد الهيريرو والناما
في الرسالة التالية المنشورة في حزيران (يونيو) 1907، نجد مقطعًا مثيرًا بشدة للاهتمام، يتحدث عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الألمانية ضد شعبَي الهيريرو والناما في المنطقة التي تُعرف حاليًا بناميبيا بين العامين 1904 و1908. لم تُذكَر عبارة "إبادة جماعية"، ولكن ذُكِر العنف الاستعماري الألماني في سياق النقاش حول علاقة الحركة الصهيونية بعرب فلسطين. وهكذا تكون قد أثيرت منذ ذلك الوقت -قبل المجازر والتهجير القسري أثناء النكبة بسنوات- إمكانية لجوء الحركة الصهيونية إلى الإبادة الجماعية، علنًا في صحيفتها الرسمية "ها عولام"، ولكن سرعان ما أشير إليها كموضوع من الأفضل تجنبه.
تروي الرسالة سجالاً دار بين العامل الشاب والمستوطن السيد ج.، وهو "رجل مثير للاهتمام للغاية، ذو شعر طويل، يدّعي الإنسانية ويحب كثيرًا الحديث عن الإنسانية التي تذلل الصعاب". كان السجال يتعلق بالعرب. وبحسب العامل الشاب، يهتم ج. كثيرًا برفاههم، أما هو فكان يقيّم معاناتهم من خلال أهمية المشروع الصهيوني، والمتمثل في بناء وطن لإيواء ملايين اليهود المضطهدين. وقد وجّه إليه ج. الملاحظة التالية:
"نعم، أعرف هذا العذر، وتلك الجمل الجذّابة. لكن القتل سيبقى قتلاً حتى لو كان مثاليًا. ما الفرق إذن بيننا وبين الألمان الذين يقاتلون الآن السود في أفريقيا؟ هناك أيضًا يمكنك سماعهم وهم يتفاخرون بأن [السود] يُقتلون على مذبح الهسكلة (حركة التنوير اليهودية)".
لكنّ هذا أثار غضب العامل الشاب، الذي ألقى خطبة لاذعة انتهت ببصقه في وجه مضيفه ومغادرة منزله:
"قلت له وأنا أرتعد: "أيها اليهودي! هل تسمع ما يخرج من فمك؟ الحرب في أفريقيا والعودة إلى صهيون! الشعب الألماني! هل تعلم لماذا يشنّون هذه الحرب [...]؟ يفعلون ذلك بدافع من الشبع حتى القيء. بدافع من الامتلاء والجشع والرغبة في السيطرة والحكم وإبادة الشعوب. أما نحن، حتى لو افترضنا أن بعض الظلم قد وقع على بعض الأفراد، هل تعرف أصل هذا الظلم؟ [...] هل رأيت الأقبية المظلمة [...] والرطبة والمتعفنة التي تعيش فيها آلاف العائلات؟! هؤلاء من تسمّيهم الجلادين والظالمين! [...] وماذا تريد منّا؟ أنه إذا واجهنا عقبات في طريقنا نتوقف من دون أن نزيلها؟ [...] أنا شخصيًا لا أشعر بأي خلل في إنسانيتي بمشاركتي في هذه الحرب. هكذا يسحق الأسد الشجيرات الشائكة عند هروبه من معذّبيه! ولماذا يا سيدي هذا الإفراط في الإنسانية وهذا الكسل؟ هل تريد تأسيس رابطة لمحبي العرب؟ هذا مثالي للغاية!".
 
جدل حول المفردات وليس حول الواقع
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، نشر عالم الاجتماع الفرنسي، ديدييه فاسين، مقالًا بعنوان "شبح الإبادة الجماعية في غزة" على منصة AOC الفرنسية، يستحضر فيه الإبادة الجماعية لشعبَي الهيريرو والناما، والتي سلط عليها الضوء أيضًا مثقفون آخرون، مثل المفكرة والناشطة الكندية نعومي كلاين، بهدف دق ناقوس الخطر. وتشير أوجه التشابه البنيوية بين الحالتين إلى أن الهجوم الإسرائيلي على غزة يمكن أن يكون جزءًا من دينامية إبادة جماعية. وفي فرنسا، تعرضت هذه المقارنة إلى انتقادات شديدة واعتبرها العديد من المثقفين غير ذات صلة.
يبدو أيضًا أن هذا الشاغل تم التعبير عنه كذلك في مقابلة نشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية في 19 نيسان (أبريل) 2024 بعنوان، "لم يعد اليسار يعرف كيف يتحدث عما يحدث في الشرق الأوسط". وكأن الجدل حول الكلمات أكثر إلحاحًا من الجدل حول الواقع الذي نعيشه. وكأن على التحليل النقدي أن يلائم الامتثالية الأخلاقية المحيطة، بما أننا نعيش في "فترة مضطربة". لكنّ التفكير النقدي تحديدًا يجب أن يعبر عن نفسه في أي سياق، وأن يزعزع مناطق الراحة.
 
*رون نايفلد: مؤرخ للديانة اليهودية في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا. كاتيرينا بانديني: باحثة في العلوم الاجتماعية، تدور أشغالها حول مشاركة النشطاء والحركات الاجتماعية والنشاط الديني والعلاقات الاستعمارية في إسرائيل وفلسطين.
*ترجمت المقال من الفرنسية دينا علي.
المراجع والهوامش:
(1) Etan Bloom, "Arthur Ruppin and the Production of Pre-Israeli Culture", Brill, 2011.
(2) بعد مرور ما يقرب من 40 عامًا، في العام 1945، قام أجنون بتفكيك نموذج التشكيل أو البلوغ هذا في روايته الرائعة "تمول شيلسوم".