عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Mar-2025

العوائق الثقافية وحدود التفكير*موفق ملكاوي

 الغد

تقترح النصوص الأدبية قراءات عميقة، وأحيانا متعددة لمعرفة المعنى المخفي الذي تتقصده، فالكتّاب يلجأون غالبا إلى إخفاء المعنى الحقيقي تحت ركام من الكلام والصور والأحداث.
 
 
في معظم النصوص الأدبية، أو الإبداعية، يجد القارئ العادي نفسه مستمتعا كثيرا بالحكاية التي تلاحق الشخصية الرئيسية، ومجمل الأحداث والعقبات التي تختبرها. القارئ العادي سوف يستمتع كثيرا برواية "العجوز والبحر" للأميركي إرنست همنغواي كقصة مغامرة بطلها عجوز يمتلك الإرادة والتصميم، في حين سيجد أن رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ تستهدف تتبع حياة رجل طائش لا تسعفه خياراته في الخروج من مآزقه التي يصنعها بنفسه. أما "ثرثرة فوق النيل" لمحفوظ أيضا، فسيراها لا تخرج عن أن تكون هروبا من الواقع، ورصد السلبية واللاأبالية لرجل فقد الدافعية للاستمرار في الحياة الطبيعية. أما "جين إير" للإنجليزية شارلوت برونتي، فسيعتبرها قصة حب بين شخصين من طبقتين مختلفتين، والتحديات التي تختبرها علاقتهما.
 
كل هذه القراءات صحيحة، وكل الفهم الذي توفر للقارئ العادي صحيح أيضا، ولكن هذا هو الإطلاق الأول للمعنى الظاهر، تماما كلافتة كبيرة أمام عيني المتلقي تخبره بما يتوجب عليه فهمه. لكن، هل هو كل ما أراد الكتّاب قوله في تلك الروايات؟
بالتأكيد لا؛ فالنصوص الإبداعية تنقسم في بنائها إلى أساسيين متوازيين؛ المتن الحكائي، والمبنى الحكائي، فالقراء العاديون هم الذين يتابعون المتن الحكائي بكل همة، ويتفاعلون مع الشخصيات، ويتعاطفون مع انكساراتها، لكنهم بالتأكيد لا يستطيعون الولوج إلى المعنى الحقيقي للنص، بدون امتلاك الأدوات الكافية لذلك.
من أجل محاولة التعرف على أسلوب وهدف الكاتب، والمعنى المتواري، لا بد أن تتوافر ثلاث مراحل خلال القراءة، كما يقترح نقاد الأدب، وهي "تمييز"، "افتتان" و"معرفة"، أي أن يقوم القارئ بنسف المفهوم السائد بأن التحليل عدو المتعة، ومعرفة كيفية قراءة النص باتباع المنطق، والنظر إليه من زاوية "تأويل الشك" الذي يصر على أن المعنى الحقيقي للنص يكمن في مكان خفي، وأن ما هو مسلم به سيئ بالضرورة، بمعنى أن القراءة تعتمد على الانتباه إلى التفاصيل، واستخلاص عدم الوضوح، وبالتالي فهي تعتمد على الوعي الذاتي، أو الوعي الذاتي المفرط.
هنا تكمن المشكلة أمام من يريد أن تكون قراءته عميقة للنصوص، فهي عملية غير متاحة لجميع القراء، بل للنخبة فقط، فهم القادرون على استخدام الحفر العميق في النص للوصول إلى المعنى المخفي فيه، معتمدين على ثقافتهم العالية، وآليات التلقي المدربة، وحدود التفكير.
إنه عائق ثقافي وفكري، فبالتأكيد ليس كل البشر قادرين على استخدام العقل بوظائفه العليا، فهذا مقصور على فئة معينة تتوفر لها مثل هذه الأدوات، كما أنها حريصة على أن تستخدم أدواتها بموضوعية لكي تكون قراءتها واقعية وليس قفزا في الهواء.
"القفز في الهواء" مهمة رديئة تجيدها فئة أخرى، مقسومة إلى ثلاثة أصناف: الأغبياء، والذين يتبنون نظرية المؤامرة، وأصحاب الأجندات، أو المتصيدين الذين يريدون فرض فهمهم الخاص على كل شيء، ورفض أي فهم أو تفسير آخر.
يؤكد العلماء أن "القراءة عملية معقدة تشمل 17 منطقة من الدماغ"، وهي مهارة أساسية تساعد الطلاب على توسيع المفردات اللغوية وتحسين الذاكرة وزيادة الانتباه وتطوير الخيال. وفي الوقت الذي تبدو فيه القراءة، كآلية، عملية سهلة، إلا أن تعليم مهاراتها ليس بهذه السهولة، خصوصا أن العملية تدخل في صلب تعلم صياغة النص من أهداف وسرد وثيمات ورمزية وشخصيات مختلفة ومتطورة، وسياقات تاريخية ومتخيلة، ما يعني أن تعليم القراءة هو ذاته تعليم الكتابة، فإعداد قارئ ناقد هو نفسه السياق الذي يوفر كاتبا جيدا.
دارسو الأدب يقترحون أنه "مرآة الواقع"، ولا ينفصل بحال عن السياق السياسي والاقتصادي، وبأنه وليد الثقافة واللغة التي تنتجه، ما يحيلنا إلى ضرورة العلم بكل تلك السياقات قبل أن نتصدى للقراءة.
في سياق فشل مثل هذا، يبدو التعليم أول المتهمين في القصور الحقيقي لاستخدام إمكانيات العقل التي يمكن توفرها للقارئ لكي يستطيع تفكيك النصوص الأدبية، وتلمس "الكمائن" الخطيرة التي يمكن أن تشتمل عليها، خصوصا أن كتابا عديدين استخدموا الأدب للترويج لممارسات كولونيالية هدفت إلى ترسيخ أفكار تفوق الجنس الأبيض، وحقه الطبيعي في أن يضم الأجناس الأخرى تحت حكمه بالاحتلال والاستعمار والانتداب، ونهب الأرض والثروات، وجعل الشعوب مجرد عبيد في منظومته الإنتاجية الاستعمارية. 
دراسات الاستشراق وما بعد الاستشراق، التي خاض فيها نخبة من المفكرين العالميين وعلى رأسهم المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، وجدت أن الاستعمار يستخدم الأدب كوسيلة للهيمنة، وقد ساهم بترسيخ صورة "دونية الشعوب" أدباء تحدثوا باسم الإمبراطورية الأوروبية والأميركية، ورسموا صورة مغلوطة تتضمن "تخييل الشرق"، أو "الشرق المتخيل"، وهي ظواهر كتب عنها كثيرون مثل البلغارية ماريا تودوروفا، والأميركي تيموثي برينان، والألباني أنس سولستاروفا، والفلسطيني جوزيف مسعد.
إنها العنصرية المتأصلة الثقافة الغربية، والتي ترفض القبول بواقع تنوع الثقافة، وتسم الآخرين تحت مفهوم "بربري" و"متوحش"، كما عبر عنها فريدريش هيغل في توصيفاته عن أفريقيا والهنود الحمر، وإيمانويل كانط في فلسفته الإنثروبيولوجية، وغيرهما من فلاسفة الغرب الذين أصلوا المفهوم العنصري للثقافة بصفتها مركزية ثقافية لا تقبل القسمة، ثم جاء بعدهم الأدباء الغربيون ليعبروا عن العنصرية ذاتها، ولكن برمزية عالية.
لكن أنماط التعليم القائمة لدينا تركز على العلوم الطبيعية والأساسية، بينما يتم القفز عن النصوص الأدبية، والإنسانيات بشكل عام، ومنحها درجة دنيا في الأهمية، كما لا يتم الالتفات إلى أهمية تطوير عملية التفكير نفسها من خلال المنطق والفلسفة، ما يحد من تفكير الطلبة، وإعاقة نمو تفكيرهم النقدي، وبالتالي إلى العجز عن تفكيك مثل هذه النصوص.
إنها عوائق تعليمية ينتج عنها عوائق ثقافية تجعلنا ندور في إطار محدود، وتمنعنا من القدرة على الحكم والتحليل وتبين السياقات والأفكار، ما يحيلنا إلى أدوات تستهلك الأفكار الاستعمارية وتستسيغها من دون أن نعرف الأهداف الحقيقية الكامنة وراء تلك الكتابات.