الدستور-سماح موسى
لماذا الزرّ والعروة؟
تساؤل يُطرح وأيدينا تقبض على الكتاب، لينقلنا نحو إجابات تتراوح بين الفلسفة الوجودية تارة، والتأمل النفسي تارة أخرى.
فهل يُمكن صنع فضاءات حياتية تشبهنا وتشبه الواقع من زرّ في ثنايا ثوب أبيض فاخر؟!
راشد عيسى، شاعر كبير، امتدّت خيوط شاعريته لتتجاوز الجمال، نحو العمق والوجود؛ فأبدع في مختلف الفنون الأدبية، وبثّ فيها روحا شاعرة، ذات بصيرة نافذة في تأمل الحياة والإنسان.
بالتأكيد، يُمكن الجزم أنّ الأدب فنٌّ روحيّ كسائر الفنون، لكن ما يميّزه، ترصّد التفاصيل الدقيقة العادية، للتحليق بها نحو مفاهيم كبيرة وواقعية، فيبدو الجرح في صخر الألم، وردة في رحاب الدّهشة.
في الزرّ والعروة والتي صدرت حديثا عن ( الآن ناشرون وموزعون)، يبتكر راشد عيسى تقنية أدبية موجّهة للواقع والحياة، ويترك الإنسان في ديمومة تساؤل يمتزج بالصفاء والدفء؛ فيوجّه دفّة القلب لتأمل يرصد الواقع معينا على اقتناص الحل.
حين تبدأ بتصفّح الكتاب، يهمس لك همسته الأولى؛ لتهيّئك لفضاءات رحبة، عوالم تتجاوز الأرض، لتُعيدك إليها.
في هذه الهمسة، تكون النملة ساردة والنحلة شاعرة، وعين الباشق تتعالى عليهما، والمعنى الروّاغ حاضر بين هذه الأعين.
إنها طريقة تكوينية إيحائية، تعطي القارئ سلاما شاعريا، يعينه على السفر في فضاءات الكتاب.
فحين يتحوّل المعنى المؤرّق إلى فلسفة ناعمة، تظلّ عين الباشق تتعالى، تحذّرك من الغوص التام في الجمال، لإدراك مغزى أكثر عمقا للألم والفراغ، حيث لا يمكنك إلا أن تبقى عالقا في ظلّ تأمل مسكون.
أين يختبئ العنوان في سطور الحكايات؟
في الفضاء الثاني: الضديات، يختبئ: «حديث الزر»، فينقلنا نحو المغزى.
نقرأ حكاية زرّ بقي معلّقا في ثوب العروس، حيث توجّهت جميع الأنظار إلى الثوب، بينما ظلّ الزر مرتبكا يبحث عن عروة تليق به، بيدَ أنه لم يجدها، فصار مثل « أسير مظلوم»
ينهي راشد عيسى الحكاية فيقول:
«آهٍ منك أيتها الحياة، فما أنتِ إلا كذبة متبادلة بيني وبين عروة. «
في هذه الحكاية، تقنيات سردية متقنة، تكشف تأويل المشهد، فيجتمع فيها النملة والنحلة وعين الباشق، فيشترك القارئ بالارتباك مع الزر، وسط جمالية تعيد للإنسان نفسه، وخلجاته الخفية.
هذه الرحلة فضاء كامل بحدّ ذاته، يعيدنا للعنوان: الضديات، فالضدّ هنا يحتمل تأويلا: الجمع بين شيء بسيط كزر هشّ، لا يراه الجميع، وفلسفة وجودية مهمة نتعرّف عليها معه، وهو يبحث عن عروته.
إذًا هل الإنسان هو الزر؟ وهل عروة المكمّل؟ وهل سعي الإنسان الخفيّ المستمر في الحياة للفوز في الكماليات سيجعله في النهاية معلّقا على فستان الحياة؟
هل الالتفات للظواهر يفلت منا حقائق مصيرية كالزّر؟
وأين الزر والعروة في فضاءات راشد عيسى الواسعة؟
إنّ راشد عيسى يحمّلنا عبء ذواتنا ثمّ عبء هذا العالم، انتقالا من الذات إلى المصير.
العتب في المجموعة ليس قاسيا، بل ناعما كالورد، لكنّ مداهمته في وجه الواقع تجعل الشوك حاضرا، ولا بدّ من اقتلاعه.
في الفضاء الثالث: أسئلة فاشلة لإجابات ناجحة
جاءت قصّة حرف الرّاء، حيث توبّخ الحروف الأخرى هذا الحرف، وتتهمه بأسباب الحروب والمشاكل، معلّلة ذلك بكونه ينقطع بين حرفين يكوّنان الكلمة الوحيدة التي تحقّق الانسجام بين البشر، وهي كلمة حب.
إضافة إلى اتهامات أخرى تتعلق بمشاكل نطقه، فيساومهم حرف الراء، ويذكرهم بمجيئه بين معظم عملات العالم (دولار، يورو...).
وحين أدركوا أن اختفاءه يعني اختفاء المال، خضعوا له وردّوا بصوت واحد:
« بلى، المعذرة يا سيد الزمان والمكان «
المتأمل في عنوان الزر والعروة يلحظ تكرار وجود حرف الراء في الكلمتين، وفي هذه القصة يظهر ربط خفيّ ما بين الحرف والعنوان، وحكاية الزر، وعنوان الفضاء.
فالزر والعروة مفاهيم وجودية، والراء حرف يُضاف في منتصف كلمة حب فتصير حربا.
حينما يبقى الزر معلّقا بدون عروة، والحرب تبحث عمّن يزيل منها الراء، ندرك حثيثات المجموعة في الجمع ما بين لغز الوجود وتقاطعات الذات.
في قصة: حرف الراء، يبدو بشكل واضح أنّ المُلام ليس حرف الراء، إنّهم أولئك الذين خضعوا في نهاية الأمر لسطوته، فلماذا كلّ هذا اللوم من البداية؟ وأين المذنب الحقيقي وسط هذه الشوائك؟ الإنسان؟ ظرفه؟ الحياة؟ أم كان عليه أن يدرك مفهومه الوجوديّ قبل أن يصارع الهاوية، ويصبح ضعيفا هشًّا غير قادر على المواجهة، وتجاوز الضعف نحو القوة.
هل الإنسان مستعد ليبقى في وجه الظلام مقابل المال وسعي اللاجدوى، تاركا خلفه الحياة؟
في فضاء أسئلة فاشلة لإجابات ناجحة، الإنسان بطبعه يجهل السؤال، ولهذا لا يحصل غالبا على إجابات ناجحة.
في الزر والعروة ستدرك الكثير عن الحياة، وسيظل الباشق حاضرا معك، ينحو بك نحو معنى الرّوّاغ.
انتبه! أنت على مقربة من فضاءات تلزمك أن تدفع ثمنًا للحياة، بأشجع إجابة ممكنة.