عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Oct-2025

سيرة مدينتين*د.عاصم منصور

 الغد

في أقصى خرائِطِ الوجع، حيث الرّمل يخضب بالملح والدّم، تنهض مدينة كان اسمها غزّة صار اسمها العزة، تنهض كرمح لا ينكسر وكراية لا تنكسها الرِّياح. وعلى بعد وجعين وشلاّل دمٍ؛ تلوِّح في الذاكرة ستالينغراد، مدينة صهرتها النّيران وهرستها جنازير الدّبابات، وبين المدينتين خيط دقيق من نار ونور، الأولى تحاصرها السّماء الضيقة والبحر المصلوب وطائرات الأعداءِ وبنادق الأخوة، والثّانية حاصرتها الثّلوج والمدافع والشتاء الطّويل. كلتاهما علمتا العالم أن المدن حين تحشر في الزّوايا، تتحول إلى نار تشعل جذوة المقاومة.
 
 
في ستالينغراد، كانت المصانع سيوفا، والنّوافذ متاريس، والثلج غِطاء يخفِّف حرارة الحديد. وفي غزّة، أعاد حطام المباني تعريف أن البيوت ليست جدرانا فقط، بل عهد وذاكرة وأسماء على جدرانِ القلب. هناك، كانت القنابل تحاول أن تخرس المدينة؛ وهنا، تحاول الصّواريخ أن تلغي التاريخ وتحرِف الجغرافيا. لكن المدن التي كتِبت بالدّم لا تمحى بالرّصاص، بل تتمدّد على خرائطِ الجغرافيا والتّاريخ.
ستالينغراد علّمت العالم أنّ الهزيمة ليست قدرا إن رفضتها الأزِقّة والخنادق المحفورة بالأظافر، وأنّ اللّيل وإن طال، لا يلبث أن ينسكِب مِنه فجر ساطع. وفي غزّة تمتد الأنفاق كأوردة سِرّية للمدينة، شرايين من ترابٍ وعناد، تسري فيها لوجِستيّات الحياة كما تسري الهمسة في صدرِ أمٍّ تخبّئ أبناءها خشية العاصفةِ وتهتف في وجهِ العاصفةِ: 
لن تمرّوا وفينا بقيّة نفس.
 في بردِ ستالينغراد، كان الجنود يدفِّئون أصابِعهم بأنفاسِهم وبأعقاب سجائر «كوزموس» يديرونها بينهم، وفي الحِصار الحديث، تدفِّئ العائلات خبزها -إن وجد-على نارٍ من صبرٍ لا ينطفئ.
هناك إنهارت جدران، لكن لم تسقط الرّوح، وهنا هوت الأبراج؛ لكي ينهض الناس من تحت الغبارِ كأنه بعث مبكر. في ستالينغراد، كانت المدينة تملي على التاريخ فقراتِه الصّعبة؛ وفي غزّة، يملي الأطفال على القرنِ تعريفا جديدا للكرامة. ما أشبه الحِصارين! كِلاهما امتحان للزّمن: هل يقوى الحديد على كسرِ الماء؟ وهل يفلِح الجوع في تجفيفِ نبعٍ حفر في أعماقِ الصّدر؟
المدينتان مِرآتان متقابِلتان: إذا نظرت إحداهما إلى الأخرى، رأت في عيونها بذور نجاةٍ عصيّة. في تلك المدينة البعيدة، انتصر النّاس حين قرّروا أن الشوارع ليست ممراتٍ فقط، بل خنادق من عزيمة. وفي غزّة، يقرّر الناس كلّ صباح أنّ الضوء مِلكهم، وأنّ أبواب النّهار تفتح بالنّداء: «نحن هنا». قد تتشابه الأصوات حين تضجّ المدافِع، لكن لكل مدينة لحنها: لحن ستالينغراد كان وقع الخطى على الثّلج، ولحن غزّة هدير البحرِ حين يهمِس للرّصيف اصمد.
ليس التّشبيه هنا احتفاء بالدّم، ولا تزيينا للحطام، بل طريقة لنفهم كيف يخلِق البشر معنى  للكرامةِ كي لا تبتلِعهم المعاناة، ليعيدوا تفسير الكرامةِ التي لا تقاس بالعدّةِ والعتاد، بل بِعددِ المرّات التي ينهض فيها القلب من كبوتِه؛ لينبِض صارِخا: سأواصل الهدير.
دخلت ستالينغراد عشيّة رأس سنةٍ على بعدِ نصرٍ ونيِّفٍ من الحرب، فلم أجد فيها إلا احتفاء بالحياةِ وتِمثالا للنّصرِ يذكِّر الماكِثين فيها بِأولئِك الذين عبروا، وسندخل غزة قريبا في الطريقِ إلى القدس لنحتفي بالحياةِ وبالخلاصِ من «المارّين بين الكلماتِ العابرة».  
هكذا تتجاور مدينتان وحّدتهما المأساة وجمع بينهما الصّمود، إحداهما من صقيعٍ وأخرى من ملحٍ، وبينهما، يمشي الإنسان ذلك الكائن الذي إذا حوصِر، حوّل الحِصار إلى ملحمة. 
ستبقى غزّة تدرِّس العالم صبر البحرِ حين يضيق الشّاطئ، وستبقى ستالينغراد تذكِّر التّاريخ أنّ المدن لا تقاس بمساحتِها، بل بِقدرتِها على تحويلِ الألمِ إلى معنى، والخراب إلى نهوض، واللّيل إلى فجرٍ يتعثّر أوّلا.. ثمّ يبزغ.