عمون
راكان السعايدة
ليست مرحلة عادية، ولا ظرفًا عابرًا ما يمر به الأردن منذ أن تولى المتهور دونالد ترمب قيادة التصادم الأميركي مع أغلب دول العالم، هو ظرف استثنائي بامتياز، وفي قلبه مخاطر.
ولا أدري إن كنا تحسبنا مسبقًا لاحتمالية فوزه (ترمب) في انتخابات الرئاسة، وحضّرنا أنفسنا جيدًا للتعامل مع شطحاته وتهوره، وهو الذي ليس بيننا، كدولة، وبينه ود مذ رئاسته السابقة.
إجابة مسألة التحسب المسبق لا يمكن الجزم بها، فلا إشارات ولا دلالات على أننا تحسبنا، وكأن الرهان على خسارته الانتخابات كان الغالب في ذهن الدولة وأتكأت على ذلك، وكفى.
ليس هذا هو المهم الآن، لأن التربص بالأردن بات سمة إدارة ترمب الجديدة المنحازة بالكامل لليمين الصهيوني، المهم هو كيف ندير علاقاتنا مع أميركا في المرحلة الحالية، والأهم كيف نقرأ التطورات، ونعيد التموضع الإقليمي والدولي لحماية الأردن.
هذا يحتاج إلى فهم المدى الذي يمكن لترمب واليمين الصهيوني أن يبلغوه في إنفاذ خطة تهجير أبناء قطاع غزة والضفة الغربية إلى الأردن ومصر ودول أخرى.
مع الأخذ بالاعتبار أن رفع ترمب سقف مخططه إلى أقصى حد ربما ليس أكثر من تكتيك لانتزاع أكبر قدر من المكاسب، أي هو ضخم مطالبه ليأخذ شيئًا محددًا.
هذا الشيء ربما تكون خلاصته: ضم المنطقة (ج) والتي تعادل نحو 60% من مساحة الضفة الغربية، والحاق الباقي بالأردن ضمن سياق حكم ذاتي، فدرالية، كونفدرالية، أيًا تكن الصيغة المهم إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية.
معنى هذا أن الأردن سيكون المسؤول عن الأمن في الضفة الغربية، وربما قطاع غزة ما لم يتم إلحاق إدارتها بمصر، والمعنى الحرفي لهذا أن الأردن سيكون المسؤول عن التصدي لأي شكل من أشكال المقاومة للاحتلال الإسرائيلي.
هذا سيناريو واقعي، وسبق أن طرح مرات عديدة في سنوات سابقة، وإن كان عند الإسرائيليين بعض المحاذير من هكذا سيناريو سأتجنب ذكرها الآن على الأقل.
ما الذي أريد قوله..؟
أن الأردن المستهدف رقم واحد في المشروع الأميركي- "الإسرائيلي"، وقد صيغت طول السنوات السابقة الكثير من الجمل ذات الدلالة من مثل: الوطن البديل، الخيار الأردني.
وكلها كانت ضمن بنك أفكار أعدت بتفاهمات تحتية بين أميركا و"إسرائيل" كحلول لتصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي وأبدي، وأي تصفية للقضية هو حتمًا على حساب الأردن، بكل ما يعنيه ذلك من تغييرات جوهرية كبرى، ليس هذا وقت تفصيلها.
وما يميز التخطيط الأميركي- "الإسرائيلي" أنه يحضّر، وبشكل تدريجي طويل المدى، الأرضية المناسبة لإنفاذ مخططاته ومشاريعه في الوقت الذي يراه مناسبًا، والتنفيذ عندما تكون الأرضية مهيأة يصبح ممكنًا.
كيف نستدرك..؟
أول الاستدراك هو الاعتراف أن هذه لحظة مفصلية في تاريخ الأردن، الخطأ فيها يعادل الخطيئة، وأن ندرك أن التحالف مع أميركا ليس أبديًا، هي دولة تحكمها مصالحه أولًا وأخيرًا، وأن ندرك أن "إسرائيل" ليست حليفًا بل عدوًا لا ينظر إلينا إلا ساحة لتصفية القضية الفلسطينية.
هذا الإدراك مقدمة الاستدراك، الذي لا بد أن يفضي إلى التالي:
أولًا: إعادة تقييم العلاقة مع أميركا و"إسرائيل" تقييمًا استراتيجيًا عميقًا، وفهم أبعاد التحالف الذي يربطنا بهما، وغايته، وتحديد مصالحنا ومصالحهما من هذا التحالف.
ثانيًا: إعادة التقييم ستفضي إلى فهم ألا عواطف في تحالفات المصالح، فهي ليست أبدية، بل ترتبط بالمصالح، وهذا يستدعي إعادة النظر في كل الاتفاقيات معهما، أي أن تنتهي مع "إسرائيل"، ويعاد ضبطها مع أميركا.
ثالثًا: المباشرة في بناء شراكات اقتصادية، تشمل المياه والغاز، مع مصادر جديدة ومتنوعة، لكسر القيود التي تكبلنا، وبما يوسع هامشنا في المناورة السياسية ويجعل لرؤيتنا ومنطقنا في شؤوننا وشؤون الإقليم مكانًا ومكانة.
رابعًا: إعادة تصميم اقتصادنا وموازنتنا بالاعتماد على الذات أكثر، وتقليل الاتكاء على المنح والمساعدات خاصة من أميركا.
خامسًا: مقاربة علاقاتنا الخارجية مع مصالحنا أولًا وأخيرًا، سواء إقليميًا أو دوليًا، ومن شأن هذا المسار أن يدفع كل الأطراف الإقليمية والدولية للسعي إلى علاقات وتفاهمات مصلحية مشتركة متوازنة.
سادسًا: التخطيط ورسم السياسات على أساس أن ظهر الأردن مكشوف، عربيًا وإسلاميًا، دون أن يمنع ذلك من العمل المستمر على جعل الدول العربية والإسلامية تتبنى رؤيتنا وتصطف لجانبنا في المفاصل الحساسة.
سابعًا: المراهنة دائما على الأردنيين في حماية بلدهم، مع ما يتطلبه ذلك من النظر بشكل مختلف إلى همومهم وقضاياهم، والأخذ بملاحظاتهم حول السياق العام للدولة واتجاهاتها الداخلية والخارجية.
إن التفكير بما هو أعلاه وأخذه وغيره من أفكار تطرح من طيف واسع من وطنيين أردنيين سيؤدي إلى بداية طريق إعادة التموضع، داخليًا وخارجيًا، وهذا التموضع من شأنه أن يمنع القفز من فوقنا عندما نكون في قلب أزمة تستهدف أول ما تستهدف وطننا.
الدولة الأردنية اليوم، بكل مكوناتها، على صفحة واحدة، وتسير بذات الاتجاه، ولديها نفس الموقف مما يخطط لفلسطين، فلنستثمر في ذلك ونعيد قراءة وتصميم مسارنا كدولة من جديد.
علينا أن نمتلك الشجاعة والإرادة لفعل ذلك، إنها فرصة تاريخية لنا، فالفرص تولد أحيانًا من قلب المحن.