الغد-ترجمة: علاء الدين أبوزينة
كريس هيدجز – (شير بوست) 23/8/2025
تدمير غزة وتسويتها بالأرض ليس جريمة ضد الشعب الفلسطيني فحسب. إنه جريمة ضد تراثنا الثقافي والتاريخي. لا يمكننا أن نفهم الحاضر -خصوصًا عندما نغطي أخبار فلسطين وإسرائيل- إذا كنا لا نفهم الماضي.
بينما تضع إسرائيل علامة "أُنجِز" على المزيد من بنود قائمتها من الفظائع الشبيهة بالجرائم النازية ضد الفلسطينيين -بما في ذلك التجويع الجماعي- فإنها تستعد لارتكاب واحدة أخرى: هدم مدينة غزة، إحدى أقدم المدن على وجه الأرض. ثمة معدات هندسية ثقيلة وجرافات مدرعة هائلة تشرع الآن في تحطيم مئات المباني المتضررة مسبقًا بشدة. وثمة شاحنات الأسمنت تخلط الخرسانة لملء الأنفاق وإغلاقها. وثمة دبابات وطائرات مقاتلة إسرائيلية تقصف الأحياء بشراسة لتدفع الفلسطينيين الذين ما يزالون في خرائب المدينة إلى الجنوب.
سوف يستغرق أمر تحويل مدينة غزة إلى موقف سيارات أشهرًا. وليس لديّ أي شك في أن إسرائيل ستقلِّد بكفاءةٍ ما كان قد فعله جنرال الـ"إس. إس" النازي، إريش فون ديم باخ-زيليفسكي، الذي أشرف على مسح وارسو من على وجه الأرض. وقد أمضى سنواته الأخيرة في زنزانة. وليت التاريخ يعيد، ولو حتى في هذا التفصيل الهامشي.
بينما تتقدم الدبابات الإسرائيلية، يفرّ الفلسطينيون، ويكتمل تطهير مناطق مثل الصبرة والتفّاح من سكانها. ثمة القليل جدًا من المياه الصالحة للشرب، والتي تخطط إسرائيل لقطعها تمامًا عن شمال غزة. والإمدادات الغذائية شحيحة -وإذا ما توفرت، فبأسعار مرتفعة بشكل فاحش. الطحين هناك يكلف 22 دولارًا للكيلوغرام الواحد -أو حياتك. وقد أكد تقرير صدر يوم الجمعة عن "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" (IPC)، وهو السلطة العالمية الرائدة في قضايا انعدام الأمن الغذائي، لأول مرة وجود مجاعة جارية في مدينة غزة. ويقول التقرير أن أكثر من 500.000 شخص في غزة يواجهون "الجوع والفقر المدقع والموت"، مع توقع امتداد "الظروف الكارثية" في الشهر المقبل إلى مدينتي دير البلح وخان يونس. وقد توفي مُسبقًا ما يقرب من 300 شخص، من بينهم 112 طفلاً، نتيجة للجوع.
يذكرنا القادة الأوروبيون، ومعهم جو بايدن ودونالد ترامب، بالدرس الحقيقي للهولوكوست: إنه ليس "لن يتكرر هذا أبدًا"، وإنما "نحن لا نهتم". إنهم من دون شك شركاء كاملون في الإبادة. بعضهم يتباكون ويقولون إنهم "مفزوعون" أو "محزونون". وبعضهم يندد بالتجويع المنسق والممنهج الذي تنفذه إسرائيل. وثمة قلة يقولون إنهم سيعلنون اعترافهم بدولة فلسطينية.
هذا مسرح كابوكي (1) -طريقة يتصرف بها هؤلاء القادة الغربيون بحيث يستطيعون أن يصرّوا، بعد الانتهاء من الإبادة، على أنهم وقفوا في الجانب الصحيح من التاريخ، حتى بينما كانوا هم الذين سلّحوا ومَوّلوْا القتلَة الجماعيين، وقاموا في الوقت نفسه بمضايقة، وإسكات وتجريم أولئك الذين احتجوا أو أدانوا المجزرة.
تتحدث إسرائيل عن احتلال مدينة غزة. لكن هذا مجرد خداع. إن ما يرتبونه لغزة ليس الاحتلال. إنها منذورة للتدمير. للمحو. للمسح من على وجه الأرض. لن يتبقى فيها شيء سوى أطنان من الحطام الذي سيم نقله من هناك بشق الأنفس. ذلك المشهد القمري -الخالي بطبيعة الحال من الفلسطينيين- سوف يوفر الأساس لبناء مستعمرات يهودية جديدة.
في مؤتمر حول زيادة الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية المحتلة، أعلن وزير المالية الإسرائيلي المتطرف، بتسلئيل سموتريتش: "سوف يتم تدمير غزة بالكامل، وسوف يُنقل المدنيون إلى... الجنوب، إلى منطقة إنسانية خالية من ’حماس‘ أو الإرهاب، ومن هناك سيبدأون في المغادرة بأعداد كبيرة إلى دول ثالثة".
كل ما كان مألوفًا لي عندما عشتُ في غزة لم يعد موجودًا. مكتبي في وسط مدينة غزة. بيت "مارنا" للضيافة، أو (فندق مارنا هاوس) في شارع أحمد عبد العزيز، حيث كنتُ أشرب الشاي، بعد يوم من العمل، مع السيدة المسنة التي تملكه -لاجئة من صفد في شمال الجليل. المقاهي التي اعتدتُ التردد عليها. الكافيهات الصغيرة على الشاطئ. الأصدقاء والزملاء -باستثناء قلة قليلة- الذين أصبحوا إما في المنفى، أو موتى، أو أنهم -في معظم الحالات- قد اختفوا، ودفنوا بلا ريب تحت جبال الركام. في آخر زيارة لي إلى "مارنا هاوس" نسيت أن أعيد مفتاح الغرفة. رقم 12. كان معلقًا بقطعة بلاستيكية بيضاوية كبيرة مكتوب عليه "فندق مارنا هاوس". والمفتاح ما يزال هنا على مكتبي.
اختفت من الوجود قلعة "قصر الباشا" المهيبة في مدينة غزة القديمة، التي بناها السلطان المملوكي بيبرس في القرن الثالث عشر، والمعروفة بنحتها البارز لأسدين متقابلين. واختفى كذلك "حصن برقوق"، أو "قلعة برقوق"، وهي مسجد محصن من العصر المملوكي بُني في العاميين 1387-1388، وفقًا للكتابة المنقوشة فوق بوابة المدخل. وكان الخط العربي المزخرف عند البوابة الرئيسية يقول: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَـنِ الرَّحِيمِ. ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتى الزَّكَوةَ وَلَم يَخشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلئِكَ أن يَكُونواْ مِنَ المُهتدِينَ﴾.
قُصِف المسجد العمري الكبير في مدينة غزة ودُمّر، وكذلك حال المقبرة الرومانية القديمة، ومقبرة حرب الكومنولث -حيث دُفن أكثر من 3.000 جندي بريطاني ومن الكومنولث من الحربين العالميتين الأولى والثانية- إلى جانب الجامعات، والأرشيفات، والمستشفيات، والمساجد، والكنائس، والمنازل والمباني السكنية، وميناء أنثيدون (2)، الذي يعود تاريخه إلى 1100 عام قبل الميلاد، والذي كان في السابق مرسىً للسفن البابلية، والفارسية، واليونانية، والرومانية، والبيزنطية والعثمانية، أصبح الآن أطلالًا.
اعتدت أن أترك حذائي على رفّ عند الباب الأمامي للمسجد العمري الكبير، أكبر وأقدم مسجد في غزة، في حي الدرج بالمدينة القديمة. كنت أغسل يدي ووجهي وقدمي عند صنابير المياه العامة، وفق طقس التطهُر قبل الصلاة، المعروف بالوضوء (3). وفي داخل ذلك المكان الهادئ بأرضيته المفروشة بالسجاد الأزرق، كان يختفي ضجيج غزة، وضوضاؤها، وغبارها، وأبخرتها وإيقاعها المحموم.
ليس تدمير غزة جريمة بحق الشعب الفلسطيني فحسب. إنه جريمة بحق تراثنا الثقافي والتاريخي -اعتداء على الذاكرة. لا يمكننا أن نفهم الحاضر، خاصة عندما نغطي أخبار الفلسطينيين والإسرائيليين، إذا لم نكن نفهم الماضي.
لطالما شكل التاريخ تهديدًا قاتلًا لإسرائيل. إنه يعرّي حقيقة فَرض مستعمرة أوروبية عنيفة على العالم العربي. وهو يكشف عن الحملة الشرسة لمحو الهوية العربية عن بلد عربي. وهو يؤكد على العنصرية المتأصلة تجاه العرب، وثقافتهم وتقاليدهم. وهو يتحدى أسطورة أن الصهاينة، كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك، بنوا "فيلا في وسط غابة". وهو يسخر من كذبة أن فلسطين هي وطن يهودي حصريًا، ويستحضر قرونًا من الوجود الفلسطيني، ويسلط الضوء على ثقافة الصهيونية الغريبة، المزروعة في أرض مسروقة.
عندما غطيتُ الإبادة الجماعية في البوسنة، فجّر الصرب المساجد، ونقلوا بقاياها بعيدًا، ومنعوا أي شخص من التحدث عن الهياكل والمباني التي هدموها. والهدف في غزة هو الشيء نفسه؛ محو الماضي واستبداله بالأسطورة؛ وإخفاء الجرائم الإسرائيلية، بما فيها جريمة الإبادة الجماعية.
إن حملة المحو تُلغي تمامًا البحث الفكري وتُحبط الفحص النزيه للتاريخ. إنها تحتفي بالتفكير السحري. وهي تسمح للإسرائيليين بالتظاهر بأن العنف المتأصل الذي يكمن في قلب المشروع الصهيوني، والذي يعود وراءً إلى وقت سلب الأراضي الفلسطينية في عشرينيات القرن الماضي وحملات التطهير العرقي الأوسع نطاقًا للفلسطينيين في العامين 1948 و1967، غير موجود.
تحظر الحكومة الإسرائيلية إحياء ذكرى النكبة علنًا -وهو يوم حداد للفلسطينيين الذين يريدون تذكر المجازر والحملات التي شردت 750 ألف فلسطيني ونفذتها الميليشيات الإرهابية اليهودية في العام 1948 لهذا السبب -حتى أن الفلسطينيين مُنعوا من رفع علمهم الوطني.
هذا الإنكار للحقيقة التاريخية والهوية التاريخية يسمح للإسرائيليين بالتشبث بوضع الضحية الأبدية. وهو يديم حنينًا معميًّا أخلاقيًا لماضٍ مُختلق. وإذا واجه الإسرائيليون هذه الأكاذيب، فإن ذلك يهدد بأزمة وجودية. إنه يجبرهم على إعادة التفكير في مَن يكونون. لكن معظمهم يفضلون الراحة التي يوفرها الوهم. وتظل الرغبة في الإيمان أقوى من الرغبة في الرؤية.
المحو يُكلّس المجتمع. إنه يُغلق الطريق أمام تحقيقات الأكاديميين والصحفيين والمؤرخين والفنانين والمثقفين الذين يسعون إلى استكشاف وفحص الماضي والحاضر. والمجتمعات المتكلسة تشن حربًا مستمرة على الحقيقة. وفيها يجب تجديد الأكاذيب والتمويه باستمرار. الحقيقة خطيرة. وبمجرد ترسيخها تصبح غير قابلة للتدمير.
طالما ظلت الحقيقة مخفية، وطالما ظل الباحثون عن الحقيقة مُسكَتين، سيكون من المستحيل على أي مجتمع أن يعيد تجديد نفسه وإصلاحها. وكما هو معروف، تسير إدارة ترامب بخطى ثابتة مع إسرائيل. إنها تسعى هي أيضًا إلى منح الأولوية للأسطورة على الواقع. وهي أيضًا تُسكت أولئك الذين يتحدون أكاذيب الماضي وضلالات الحاضر.
لا يمكن للمجتمعات المتكلسة أن تتواصل مع أحد خارج دوائرها من المحارم. إنها تنكر الحقائق القابلة للتحقق من صحتها، التي تُشكل الأساس الذي يقوم عليه الحوار العقلاني. ويكمن هذا الفهم في صميم "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي أنشئت في جنوب إفريقيا. هناك اعترف الذين ارتكبوا فظائع نظام الفصل العنصري بجرائمهم مقابل الحصانة. وبفعلهم ذلك، منحوا الضحايا والجناة لغة مشتركة؛ لغة متجذرة في الحقيقة التاريخية. عندئذٍ فقط أصبح الشفاء ممكنًا.
إن إسرائيل لا تدمر غزة فحسب. إنها تدمر نفسها أيضًا.
*كريستوفر لين هيدجز Chris Hedges: صحفي أميركي ومؤلف ومعلق. يكتب عمودًا أسبوعيًا في موقع "شيربوست" Scheerpost ويستضيف البرنامج الحواري، "تقرير كريس هيدجز" The Chris Hedges Report على شبكة "الأخبار الحقيقية". عمل في بداية حياته المهنية كمراسل حربي مستقل في أميركا الوسطى لصحيفة "كريستيان ساينس مونيتور"، و"محطة الراديو الوطني"، و"دالاس مورنينغ نيوز". عمل مراسلاً لصحيفة "نيويورك تايمز" من العام 1990 إلى العام 2005، وشغل منصب رئيس مكتب التايمز في الشرق الأوسط ورئيس مكتب البلقان خلال الحروب في يوغوسلافيا السابقة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Chris Hedges: Israel’s Assassination of Memory
هوامش المترجم:
(1) مسرح الكابوكي هو شكل من أشكال المسرح الياباني التقليدي نشأ في أوائل القرن السابع عشر، يتميز بالأداء المبالغ فيه، والملابس الفخمة، والماكياج الصارخ. يجمع الكابوكي بين التمثيل والرقص والموسيقى ليعرض قصصًا تاريخية أو اجتماعية ذات طابع درامي.
(2) ميناء أنديثون، المعروف أيضًا باسم "ميناء البلاخية" أو "تيدا"، هو موقع أثري يعود إلى أقدم الموانئ في منطقة غزة، ويُعد مثالًا مهمًا على تلاقي الحضارات على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. أُسّس أولًا في العصر الهليني (حوالي 800 قبل الميلاد) وظل مأهولًا حتى حوالي العام 1100 ميلادي. ويحتوي الموقع على بقايا آثار متعددة مثل معابد رومانية، فيلات، أجزاء من الأسوار، وبنى تحتية للميناء.
(3) لَم يُعرف عن الكاتب والصحفي الأميركي كريس هيدجز أنه اعتنق الإسلام. وهو مسيحي بروتستانتي، وابن لقسّ مشيخي، وقد درس اللاهوت في جامعة هارفارد وعُرف بميله إلى لاهوت العدالة الاجتماعية واهتمامه العميق بالمسائل الأخلاقية في السياسة والحروب. وعندما يتحدث عن ممارسته الوضوء عند زياراته المسجد العمري الكبير في غزة، يغلب أنه يعبر بذلك عن احترامه لطقوس وثقافة الناس والمكان، وارتباطه المادي والروحي بهما.