وصفي التل.. الرأي تستذكر مؤسسها
الراي-إبراهيم السواعير
تَسْفَحُ الرأي اليوم دمعتها السّنوية الحارّة على مؤسسها وصفي التل؛ الدمعة ذاتها التي تظلّ تتجدّد كلّما مرّت ذكرى استشهاد (الرجل القويّ)، الدمعة التي كانت تُخضّب افتتاحيّة الرأي الحزينة، في عددها الثالث والخمسين بعد المئة، في سنتها الأولى، في التاسع والعشرين من تشرين الثاني.
(مصرع الرجل القويّ)، كان العنوان الأبرز والأوحد؛ فالرجل القويّ هو وصفي التلّ ذاته الذي منحها اسمها، فاحتفت به، يقطر من جنباتها الحزن؛ لتنطق عن كلّ الأردنيين، فتقول: «أصابته رصاصات الغدر في القاهرة، وليس في الأمر عجب؛ والعجب أن لا يُصاب أمثاله من أصحاب الرسالة بطعنةٍ قاتلة في وقتٍ تتوالى فيه الطعنات في جسد الأمة العربية.. الرجل العربيّ.. القويّ.. ذو العينين العميقتين عمقَ قلبه الكبير، كان يقدّر الأخطار التي تلاحقه كما تلاحق القضية العربية؛ لذلك لم يسمح لنفسه في يوم من الأيام أن يغيب عن ميدان المعركة، أو يخت?ئ وراء جدار أو ينزل في الأقبية السوداء؛ لأنه جزءٌ من قضية أرادها واضحةً كالشمس، وحمل لواءها منذ شبابه الباكر، فأشبع الكفاح كفاحاً والرجولة رجولةً والإيمان إيماناً.. وفي مسيرته الطويلة مع الحسين حمل الأمانة مع القائد الأمين وأصبح إلى جانبه رمزاً للرجولة والصمود، فَخَلَقَا معاً في المعركة مدرسة كفاح الشعب الأردني.. المدرسة التي صهرت هذا الشعب الأصيل، واستنفرت فيه كلّ عناصر القوة والتضحية وإرادة الصبر في الكفاح، لذا فإنّ الرصاصات الغادرة لا تقتل الرجل القويّ، فما زال حيّاً بكل قدراته وطاقاته، حيّاً بالشعب الذ? أحبه الحب الكبير!».
كانت حروف الرأي رصاصاتٍ ساخنةً تطال كلّ جبان كانت له يدٌ في اغتيال الشهيد، حين واصلت التقريع والوصف الدقيق للخونة والعملاء والجبناء: «لا تفرحوا أيها الجبناء.. لا ترقصوا أيها العملاء؛ لأن عين الرجل القويّ لم تُغمض جفنيها.. مليون عينٍ تُطلّ عليكم.. تلاحقكم.. تزرع الفزع في قلوبكم.. تقضّ مضاجعكم،.. لا الأقبية السوداء تحميكم.. ولا ملايين الدولارات تحرسكم!. الرجل القويّ ما زال حيّاً.. ومصرعه كشف القناع أمام الشعب الأردني، وأمام الشعوب العربية وأكّد لها بما لا يقبل الشكّ بأن طريقه الذي رسمه الحسين طريقَ الصدق والوضوح والجرأة وا?صبر، لا بدّ أن يستمر!».
وأمام ذلك الحدث الجلل، كانت «الأهرام»، و«الأخبار»، و«الأنوار» اللبنانيّة، وكلّ الصحف العربيّة، والقادة العرب ونبلاء الموقف والمبدأ، ينكرون على الثلاث عشرة طلقةً الغادرة أن تستقرّ في ظهر ووجه وجسم الرجل القوي الأعزل، أمام فندق الشيراتون في القاهرة، في الساعة المشؤومة، الرابعة إلا ربعاً، من مساء ذلك اليوم الأسود المرير.
يومَها، قال الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، يرثي رئيس وزرائه الكبير: «لقد كتب الله عليّ أن أرى أكثر من أبٍ، وأكثر من أخٍ، وأكثر من صديقٍ، وأكثر من رفيق، يسقطون على طريقٍ اخترناها ووجدنا السير عليها أشرف وأنبل وأكرم وأبقى حتى من الحياة!.. عليها سار من سبقنا، وعليها قضى من قضى من شهدائنا على أرض فلسطين، وعليها سار في حياتنا السياسية هزاع، وكلّ من نافح وكافح من أجل القضية في سبيل الاستقرار.. من أجل الأمن والسلام!».
«كلّما تذكرت الناس وصفي، صار طعم الذكرى مرّاً؛ وكلّما تيقّنتْ من كلّ هذا التهافت الكبير على الحكم عاد إلى أذهانها الوزير القويّ ورئيس الوزراء القويّ؛ فهو ليس أسطورةً؛ فمثل وصفي آلاف الأردنيين، غير أنّ ما ميّزه أنّ الأردنّ كان يسكن وجدانه ويعيش فيه أربعاً وعشرين ساعةً في اليوم»، يقول كاتب الرأي القريب جداً من وصفي التل في الإذاعة الأردنيّة، الراحل طارق مصاروة رحمه الله، في استذكاره وصفي، قرّة عين «هزاع» الشهيد، الذي كان يزوره في الإذاعة خمس مرّات في الأسبوع، يوم كانت الإذاعة منتدىً سياسيّاً خطيراً، ومثلها كانت معسكرات الشباب تتألّق بفكر الرجل القويّ الموجّه للطاقات نحو الأرض والوطن؛ فقد أرسى من القواعد ما حوّل به الدولة الأردنيّة من ريعيّة إلى دولةٍ منتجة؛ إذ كان يؤمن بالإنتاج العادل أكثر من إيمانه بالتوزيع العادل للثروة.
«هناك متضررون كثيرون من وصفي»، يقول مصاروة مردداً عبارة صديقه الرائعة على الدوام: «حين يتعلّق الأمر بالوطن، فلا فرق بين الخطأ والخيانة، فكلاهما يتساوى».
نحتاج وصفي اليوم، لا لنمرّن دموعنا الجامدة أمام كثيرٍ مما تتنزّل له الدموع، ولا لنسأل السؤال المرّ المعروفة إجابته ضمناً وصراحةً «من قتل وصفي؟!»، ولكن، لنستفيد من الرجل نموذجاً سياسياً في الدولة الأردنيّة، وإداريّاً ناجحاً؛ أمّا الشهادة، فأنّها كانت وما تزال عنصراً أصيلاً لدينا، منذ استشهاد عبدالله الأول ابن الحسين على عتبات الأقصى، واستشهاد الحقوقيّ الكبير إبراهيم هاشم، واستشهاد نبض الأردن هزّاع المجالي،.. ومثلهم الكثير والنوعي، من رجالات الوطن الأنقياء والأطهار عبر مشوار الأردنّ المبارك والطويل بعد مئة ع?مٍ على التأسيس.