عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Oct-2019

سارة آرنسون.. اليهودية التي أسقطت الدولة العثمانية - نسرين نعيم البرغوثي
 
الجزيرة -في تموز من عام 1914، اندلعت الحرب العالمية الأولى، حيث كان اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فريديناند وزوجته، في سراييفو الشرارة التي أشعلت الحرب. وقد وقعت بين كل من قوات الحلفاء (المكونة من بريطانيا وفرنسا وروسيا) من جهة، ودول المحور (المكونة من ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية وبلغاريا) من جهة أخرى.
 
في هذه الأثناء، كان على الحركة الصهيونية، في فلسطين، اختيار الجانب الذي ستقف معه. وبمنطق التاجر، فقد وقفت إلى جانب الطرف الأقوى، وقد كان في ذلك الوقت بريطانيا. فعقدوا العزم على مساعدتها، على أمل أن تمكنهم من تحقيق حلمهم بتأسيس دولتهم، المزعومة، في أرض الميعاد.
 
في عام 1915 والتي أسس عالم النبات اليهودي آرون آرونسون شبكة "نيلي" التجسسية لصالح الإنجليز، والمكونة من إخوته بما فيهم سارة شقيقته، واثنين من أصدقاء العائلة، ويجدر الذكر، بأن اسم الشبكة "نيلي" هو الأحرف الأولى للعبارة الافتتاحية في سفر صامويل: "خلود إسرائيل ليس كذبة".
 
ولدت سارة آرنستون، التي دقت المسمار الأخير في نعش الدولة العثمانية، رجل أوروبا المريض كما كان يطلق عليها آنذاك، في منطقة عتليت قرب حيفا عام 1890. ونشأت في مستوطنة زخرون يعقوب الزراعية، وهي من أقدم المستوطنات الصهيونية في فلسطين، وقد قامت محل قرية زمازين الفلسطينية، تزوجت في مطلع شبابها، من تاجر يهودي بلغاري، وسافرت معه الى القسطنطينية. لكن هذا الزواج لم يصمد طويلاً، وعادت إلى عتليت، حيث عملت مع أشقائها في مختبر للأبحاث النباتية، الذي كان غطاءً لشبكة "نيلي" التجسسية.
 
اختراق الدولة العثمانية
بدأ عمل "نيلي" من خلال مؤسِّسها آرون آرونسون، الذي استغل خبرته كعالم نبات، للتقرب من السلطات العثمانية. فعندما انتشر الجراد عام 1915، تم تعيين آرون ليكون القائد العام لمكافحة الجراد، بأمر من أحمد جمال باشا، الذي كان قائد الجيوش العثمانية في بلاد الشام. ومُنِحَ صلاحيات عسكرية كاملة، مكنته من التنقل بين المدن السورية، وتسجيل الملاحظات حول حجم القوات العسكرية، وإرسال المعلومات إلى الاستخبارات البريطانية في القاهرة.
    
أما سارة، فقد أوكل إليها مهمة تأسيس جيش نسائي من بائعات الهوى، للإيقاع بالضباط العثمانيين والألمان، وجمع المعلومات منهم. وأول ما قامت به هو توزيع جيشها النسائي على أكبر الفنادق، في كل من القدس، ودمشق، وبيروت، حيث تتواجد المقرات العسكرية التركية والألمانية، أما هي، فقد تمكنت من خلال علاقاتها مع إحدى العائلات البيروتية العريقة، من التعرُّف على أحمد جمال باشا (السفاح)، الحاكم المطلق لبلاد الشام آنذاك. فسلبت اليهودية الحسناء لبه، واستطاعت في فترة وجيزة أن تصبح عشيقته ومحل ثقته.
 
استغلت سارة قربها من جمال باشا وتواجدها الدائم معه، فعملت على العبث بعقله وتوجيه قراراته وتصرفاته. كما استطاعت الحصول على تصريح للتجول بحرية، في جميع أنحاء الدولة العثمانية بحجة دراسة النباتات، لكن السبب الحقيقي بالطبع كان جمع المعلومات العسكرية، لصالح الحلفاء. فكانت النتيجة هزائم مروعة في الجبهات التركية، وصراع دامٍ بين العرب والأتراك، أدى في النهاية إلى احتلال فلسطين، واقتسام الدول العربية بين الحلفاء.
 
في تلك الفترة استطاعت سارة الاجتماع بالجنرال اللنبي، قائد الجيوش البريطانية في المنطقة. الذي سلمها قائمة من المهام، التي تهدف إلى منع وصول القوات العثمانية إلى فلسطين. والحصول على تحركات وخطط العثمانيين في غزة. وقد نجحت مع جيشها النسائي في إنجاز القائمة على أكمل وجه! مما تسبب بهزيمة ساحقة للقوات التركية في غزة.
 
رحلة السقوط
بعد هذه الهزيمة، بدأت الشكوك تحوم حول سارة آرونسون ودورها في هذه الهزيمة، وقد اكتشف الباشا خيانتها، لكن بعد فوات الأوان. فقد خسر الحلف التركي الالماني، وتمكنت سارة من الهرب. فما كان من جمال باشا إلا أن رصد مكافأة مجزية، لمن يأتيه بسارة، في هذه الأثناء، استطاعت سارة التسلل إلى عمق التحصينات التركية، في غفلة من الباشا وجيشه. وتمكنت من الوصول إلى مخازن الذخيرة، والعتاد الحربي، ومناطق تموين الجيش التركي، وتمرير المعلومات للبريطانيين.
 
ثم تعرفت على الثري اللبناني يوسف عمران، واستطاعت تجنيده بدعوى أنها تعمل لصالح الألمان. فساعدها بجمع المعلومات، والتخفي عن أعين رجال جمال باشا. كما ساهمت علاقاته العميقة مع علية القوم، في جمعها معلومات عسكرية خطيرة، قامت بإرسالها عن طريق الحمام الزاجل إلى عتليت مقر شبكة "نيلي"، لكن شهر عسل يوسف عمران مع سارة آرنسون لم يستمر طويلاً، فقد تم القبض عليه أثناء مهمة تجسسية، وتم تعذيبه ومن ثم إعدامه، في فبراير من عام 1916، بعد أن علم بأن عشيقته كانت جاسوسة يهودية، تعمل لصالح الإنجليز والحركة الصهيونية. أما سارة فقد استطاعت الإفلات للمرة الثانية، وهربت متنكرة على هيئة راعي أغنام.
 
ورغم حياة الهرب التي عاشتها بعد ذلك، لم تتوقف عن عملها التجسسي. فقد أصبحت تحمل الرسائل بين أطراف الشبكة والاستخبارات الإنجليزية. استمرت في عملها هذا حتى سبتمبر من عام 1917. حيث وقعت حمامة زاجلة كانت تحمل رسالة إلى البريطانيين في يد العثمانيين. واستطاعوا فك شفرتها وتوصلوا إلى كشف شبكة نيلي، فتم اعتقال عدد من أعضاءها، كان من أهمهم سارة آرنسون، التي تم اعتقالها من منزلها في عتليت.
 
تعرضت سارة بعد اعتقالها لمختلف أنواع التعذيب البدني والنفسي، لتعترف بالمعلومات التي سربتها لكن دون جدوى. فتقرر نقلها إلى دمشق لاستكمال التحقيق معها، إلا أنها قررت الانتحار بمسدس حصلت عليه من منزلها، عندما أخذها الجنود لتغيير ملابسها، قبل ترحيلها إلى دمشق، ولم يشأ الله أن تكون وفاتها فورية، فاستمرت في الاحتضار لمدة 4 أيام كاملة. قبل أن تسلم الروح في 9 تشرين أول من عام 1917، وهي بعمر 27 عام.
 
انتهت الحرب العالمية الأولى في عام 1918، فسحبت القوات التركية جيشها من سوريا، وحُل حزب الاتحاد والترقي، وتمت تصفية أحمد جمال باشا. وعام 1923 كتبت معاهدة "لوزان" التي وقعت شهادة وفاة الدولة العثمانية وشهادة ميلاد الدولة التركية الحديثة. وكان الفضل في ذلك لسارة آرونسون، التي أسقطت امبراطورية دامت 6 قرون، من فوق فراش الباشا.