"طوفان الأقصى".. دراسات بحثية في تحولات المشهد الفلسطيني
الغد-عزيزة علي
يشكل كتاب "طوفان الأقصى: السياق التاريخي، تحولات الحاضر، ووجهة المستقبل". محاولة بحثية لفهم وتحليل التحولات الجارية في المشهد الفلسطيني، والإقليمي، والدولي، من خلال تناول عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وما تبعها من عدوان إسرائيلي واسع النطاق على قطاع غزة.
لا يتعامل هذا الكتاب مع "الطوفان" بوصفه حدثا منفصلا أو استثنائيا، بل كحلقة مفصلية في سلسلة طويلة من الصراع، ونتاجا طبيعيا لمسار تاريخي معقد، ومحصلة لواقع سياسي مضطرب، إقليميا وعالميا.
وينطلق الكتاب للباحث الدكتور عبد السلام معلا، من أن فهم العملية وتبعاتها لا يمكن أن يتم بمعزل عن السياقات المؤسسة لها، ابتداء من نشأة المشروع الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر، ومرورا باتفاقية سايكس بيكو (1916)، ووعد بلفور (1917)، وصولا إلى إقامة كيان الاحتلال الإسرائيلي العام 1948، واحتلال ما تبقى من فلسطين العام 1967، ثم الهيمنة الأميركية على النظام الدولي منذ مطلع التسعينيات.
ويؤكد المؤلف أنه يسعى من خلال هذا الكتاب إلى تشخيص المنظور التحليلي الذي ينبغي اعتماده في قراءة العملية، وهو منظور شامل يستوعب الأبعاد التاريخية، والسياسية، والجغرافية، والثقافية للصراع، ويضعه في سياقه الصحيح كصراع وجود لا نزاع حدود، وكصراع بين مشروع استعماري استيطاني، وشعب يسعى إلى التحرر والكرامة والاستقلال. مبينا أن جوهر الصراع اليوم لم يعد عسكريا فحسب، بل أصبح معركة على الوعي، تتطلب إعادة بناء الإدراك الجمعي والوعي التاريخي بالصراع. وتحرير هذا الوعي من الرواية المهيمنة هو الخطوة الأولى نحو كسب المعركة الكبرى، التي تدور رحاها في فلسطين عامة، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص.
يقول د. عبد السلام معلا في مقدمة كتابه "إن عملية "طوفان الأقصى"، التي استهدفت قواعد ومقرات الجيش الإسرائيلي ومستوطنات يهودية أقيمت على الأراضي الفلسطينية المحتلة العامين 1948–1949، شكلت مفاجأة كبرى للمتابعين والمهتمين من مختلف أطراف الصراع. فقد جاءت هذه العملية خارج سياق قواعد الاشتباك المعهودة، حيث بادر فاعل غير دولتي (حركة حماس) إلى تنفيذ هجوم مفاجئ ومنسق، أعد له بدقة متناهية، وأنجز بأداء عسكري رفيع.
ولم تكن المفاجأة في طبيعة الهجوم فحسب، بل في كونه انطلق من طرف يعيش تحت سطوة الاحتلال، ويخضع لحصار محكم تفرضه أطراف محلية وإقليمية ودولية. ولهذا كله، يرى المؤلف أن صدى هذا الهجوم سيظل يتردد على المستويين الإقليمي والدولي، وسيساهم في تسريع التحولات الجارية في معادلات القوة، على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
ويرى معلا، أن عملية "طوفان الأقصى" فتحت الباب على مصراعيه لإعادة طرح القضية الفلسطينية، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من احتلال ومظالم، إلى واجهة الاهتمام العالمي مجددا. كما أن تطورات العدوان الإسرائيلي اللاحق للعملية كشفت عن كثير من الخفايا المرتبطة بأطراف الصراع وتفاعلاته المعقدة. وقد مثل ذلك دافعا قويا لتناول هذه العملية ضمن سياقها الطبيعي، مما يتطلب الوقوف على الجذور التأسيسية للصراع، وتتبع مراحله وتطوراته، حيث يفهم هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وتداعياته كجزء من سياق واسع ومتكامل، لا كمشهد مفاجئ ومنعزل.
ويشير المؤلف إلى أنه لا تصح قراءة "الطوفان" قراءة منعزلة من دون تشخيص دقيق لطبيعة النظامين السياسيين الإقليمي والدولي، ورصد التحولات الجارية فيهما، وفهم الانزياحات الحاصلة في موازين القوى. وعند مناقشة "الطوفان" في هذا الإطار المرجعي، يمكن استشراف المآلات المحتملة له، بوصفه نتيجة منطقية لمقدمات عميقة واستحقاقا طبيعيا فرضته مدخلات ذات وزن كبير في المشهد السياسي والصراعي الراهن.
يوضح معلا أن مؤلفه جاء في سبعة فصول، يتناول أولها الخلفية التاريخية لمدينة غزة، ويمهد الطريق للتعرف عليها بوصفها مدينة عريقة ضاربة في عمق الزمان والمكان، بما يستدعي استعراض تجاربها وخبراتها المتراكمة عبر العصور، التي جعلت منها مدينة متميزة عالميا، شكلت رابطا مهما بين قارات العالم القديم، وكانت بحق حجر الزاوية في نشاطاته السياسية والعسكرية والتجارية والثقافية.
يسلط الفصل الثاني، الضوء على "قطاع غزة"، الإقليم الجغرافي الذي يحمل اسم مدينة غزة، أكبر التجمعات السكانية فيه، موضحا أنه إن كانت غزة المدينة قد مثلت قبلة عالمية عبر التاريخ، فإن قطاع غزة اليوم يرزح تحت حصار متجدد يستهدف قطع السبل التي تمده بأسباب الحياة، وعزله عن محيطه، وتهميشه وإضعافه حتى الموت. فبين غزة المدينة العريقة، وقطاع غزة الإقليم المحاصر، حكايات وشجون ومفارقات يكشف عنها هذا الفصل.
ويناقش الفصل الثالث "مشروع الشرق الأوسط"، في محاولة لاستنطاق ما يمر به قطاع غزة اليوم من محن قاسية، في ضوء التفاعلات الإقليمية الواسعة، وما تحمله من دلالات ومغاز. فمشكلة القطاع ليست معزولة عن الأحداث الكبرى، ولا عن تحولات القوة والتاريخ من حوله، في إطار صراع حضاري لا ينقطع. ولفهم ما يجري في قطاع غزة، لا بد من تسليط الضوء على الخطط التي رسمت للمنطقة برمتها منذ بدايات القرن الماضي، حيث تتوالى الأحداث وتتراكم، بوصفها حلقات مترابطة في سياق حركة التدافع الإنساني المستمر.
أما الفصل الرابع، فيستعرض الفواعل السياسية التي تؤثر على واقع قطاع غزة، وتشمل: دولة الاحتلال، والنظام الدولي، والنظام العربي، وحركات المقاومة الفلسطينية وداعميها. وهو معطى أساسي لا يمكن تجاوزه عند محاولة فهم ما يجري في غزة، إذ يتطلب الأمر إدراك أطراف الصراع ومؤثريه، لفهم أبعاد المعركة، وأدواتها، وتكتيكاتها، واستراتيجياتها.
فمن دون الخوض في تفاصيل هذا المشهد، يصعب إدراك طبيعة المعركة بصورتيها: الكبرى – التي تمثلت في الاستعمار الغربي لمنطقتنا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وما تزال آثارها ومفاعيلها قائمة – والمعاصرة، بأسبابها ودوافعها، وأطرافها المحلية والإقليمية والدولية. كما يصعب دون ذلك استشراف المسارات المحتملة لهذه المعركة، ونهاياتها الحتمية.
ويحلل الفصل الخامس طبيعة العلاقة بين هذه الفواعل، سواء أكانت متعارضة أو منسجمة فيما بينها، كما يبحث في مواقفها مجتمعة أو منفردة تجاه قطاع غزة. ويساهم هذا التحليل في استكشاف موقع الفواعل المحلية والإقليمية في النظام السياسي العالمي، وما إذا كانت تقف في موقع المواجهة معه، أو تتبنى سياسة التبعية له. وإذا ثبت تبنيها لهذا النهج، يطرح التساؤل حول ما إذا كانت هذه الفواعل ستقف إلى جانب قطاع غزة، أم أنها ستصطف مع عدوه العالمي ووكيله في المنطقة، أي دولة الاحتلال الإسرائيلي.
أما الفصل السادس، فيسلط الضوء على حصار قطاع غزة، متناولا بداياته ودوافعه ومظاهره ضمن سياق الصراع القائم، كما يوضح حجم المعاناة ومرارة العيش التي لحقت بسكانه على مدى عقود طويلة بسببه. ويعرض الحصار بوصفه أداة للصراع والعزل والإضعاف، في حين أن مقاومته تقع في صلب المواجهة مع الاحتلال، وسعيها لإفشال محاولات إخضاع الشعب الفلسطيني. كما يستعرض الفصل الأطراف المنخرطة في الحصار، وأهدافها، والنوايا الكامنة وراء مشاركتها فيه.
ويتناول الفصل السابع معركة "طوفان الأقصى"، ويفحص ما إذا كانت مجرد قفزة في الهواء، أو انتفاضة عابرة ونزوة انفعالية سرعان ما تخبو مفاعيلها، أم أنها نتاج سياق متكامل نضجت أركانه وتطورت تفاعلاته عبر عقود طويلة من الاحتلال. ويناقش الفصل ما إذا كانت هذه المعركة نتيجة حتمية لسياسات العدوان والعزل، وممارسات الإبادة والحرب الوجودية ضد الشعب الفلسطيني، ما يجعل منها معركة مفصلية سيكون لها ما بعدها.
يوضح معلا أنه يسعى في هذا الكتاب إلى تشخيص المنظور الواجب اعتماده في توصيف وتحليل عملية "طوفان الأقصى"، وما تبعها من عدوان إسرائيلي همجي على قطاع غزة، باعتبارها مسألة بالغة الأهمية. فالتباين في قراءة هذه العملية وفهم دلالاتها، ومن ثم تحديد الموقف من رد فعل الاحتلال عليها، إنما يعكس اختلافا جوهريا في تبني المنظور التحليلي ذاته.
من هنا، يرى المؤلف أن فهم "طوفان الأقصى"، يجب أن يقوم على إطار استيعابي واسع، يأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الزمانية والمكانية والإرث التاريخي. إذ ليس من المنطقي أو المقبول تناول العملية، أو ما تلاها من حرب إبادة ممنهجة ضد قطاع غزة، بمعزل عن سياقاتها العميقة.
لذلك، لا يمكن إدراك دوافع العملية ولا فهم مغزاها أو استشراف مآلاتها، من دون العودة إلى ظروف نشوء المشروع الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر، وظهور مشروع الشرق الأوسط الاستعماري في مطلع القرن العشرين، ثم اتفاقية سايكس- بيكو (1916)، ووعد بلفور (1917)، وانتصار الحلفاء في الحربين العالميتين الأولى (1918) والثانية (1945)، وما أعقب ذلك من بناء نظام عالمي لم يكن للعرب ولا للمسلمين فيه أي دور يذكر، حتى تمكن المشروع الصهيوني من إحكام قبضته على كامل فلسطين العام 1948، ثم العام 1967، وصولا إلى تفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي منذ العام 1991.
وخلص معلا إلى أن تناول "طوفان الأقصى" بمعزل عن هذه الخلفيات، إنما يُعد سلخا للحدث عن سياقاته الطبيعية والمنطقية والتاريخية، وهو أمر لا يخدم الحقيقة، بل يساهم في تغييبها، ويؤدي إلى تزييف الوعي ومنح الشرعية للرواية الصهيونية للصراع. والعكس صحيح؛ فكلما اقترب التحليل من جذور الصراع وسياقاته الشاملة، زاد اتساقه مع الحقيقة.