عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Jun-2020

المفكر أبو يعرب المرزوقي كورونا أعطت الإنسانية درسا في التواضع وستدفع الشعوب للثورة

 

 تونس - حياة بن هلال - لا أعلق على الأحداث التي لا أرى وراءها دلالة فلسفية متعلقة إما بفلسفة الدين أو بفلسفة التاريخ. أكتفي بمحاولة فهم مسار الفكر الإنساني ومنزلة المرحلة التي كان الفكر فيها ناطقا بلسان القرآن، لأن العربية صارت كونيا لغة العلم والفلسفة والدين.
ما يسمونه تحصيلا للفكر الغربي هو أقرب إلى تجارة "الروبافاكيا" وليس فكرا حيا.
مثلما بدأ الربيع من المغرب (تونس)، فهزيمة الثورة المضادة أيضا بدأت من المغرب (ليبيا).
لا الفلسفة فكرها محيط ولا الدين فكره خرافي.
المسلمون بحاجة إلى فهم القرآن وعدم الاقتصار على الشعائر الإسلامية شكليا.
في حوار خاص مع الجزيرة نت، تحدث الأكاديمي والمفكر التونسي محمد الحبيب المرزوقي (أبو يعرب)، عن سبب تعليقه المستمر على الأحداث اليومية، واهتمامه بابن تيمية وابن خلدون، وأهم أسباب مشاركته بعض الأعمال مع ثلة من المفكرين رغم اختلافه الفكري معهم، وأوضح سبب نقده لابن رشد والغزالي وشرح رؤيته للعالم بعد جائحة كورونا.
 
وفي ما يلي نص الحوار:
 
أبو يعرب المرزوقي فيلسوف "يمشي في المدينة" ويثير الجدل، ولا يكف عن خوض المعارك الفكرية والفلسفية والسياسية أيضا، في تونس وخارجها، لماذا لا يكتفي بنظره الفلسفي، وينخرط في السياسة اليومية، ويعلق على الأحداث باستمرار؟ 
في الحقيقة غالبا ما أمشي في الريف وليس في المدينة، فأنا ابن الريف في بادية بنزرت، لكني فعلا مثير للجدل بخياراتي الفكرية والعقدية ومحاولاتي الفلسفية التي ترفض الجري وراء الموضة مثل باعة "روبافيكا" فضلات الفكر الغربي، رغم أن تكويني هو بالأساس غربي من فكر اليونان إلى فكر الحداثة.
 
أما لماذا لا أكتفي بالفلسفة فالأمر ليس "عيبي" الشخصي، فالفلسفة تدس أنفها في كل شيء، وخاصة في السياسة اليومية والمتعالية على اليومي، وقد يكون دليل ما أدعيه هو العنصر الأخير من السؤال: التعليق شبه اليومي على الأحداث، والمعلوم أني -بنحو ما- لا أزال في شيء من الهم الذي كان يقول إن صلاة عصرنا هي قراءة الصحف كل صباح، وقد أضيف اليوم إليها متابعة التواصل الاجتماعي الذي -إذا ما استثنينا عاهة الذباب- يمثل نبض الشارع والطريقة المثلى للتواصل مع الشباب، دون أن يكلفهم الاطلاع على ما أكتب شراء الكتب التي يذهب خراجها للناشرين دون المؤلفين.
 
لكني لا أعلق على الأحداث التي لا أرى وراءها دلالة فلسفية متعلقة إما بفلسفة الدين أو بفلسفة التاريخ، وهما همي الأول والأخير.
 
لماذا يهتم أكاديمي مُجاز من السوربون في الفلسفة ومختص بالفلسفة اليونانية والألمانية، بابن تيمية وابن خلدون؟
لم آت إلى ابن تيمية وابن خلدون إلا مؤخرا في حياتي الجامعية وبعد التخرج، وكانت البداية بالغزالي في باريس لما أعددت ما يشبه الماجستير حول مفهوم السببية، واهتممت خاصة باستكمال التكوين الضروري للفكر الفلسفي في عصرنا، أعني دراسة القانون والاقتصاد وتجويد دراستي للغة الألمانية.
 
لذلك فابن خلدون وابن تيمية يمثلان مرحلة متأخرة من حياتي الأكاديمية. لم أشرع في البحث في أعمالهما إلا بعد أن أنهيت ما يعادل دكتوراه الحلقة الثالثة المناظرة للبي أتش دي في النظام الإنجليزي والأميركي حول دور الرياضيات في فلسفة أرسطو، لكن الرجلين -كما حاولت بيانه وكما تأكد لاحقا- وخاصة بالنسبة إلى ابن تيمية، أن ما اكتشفته في فكره كان من مستوى فلسفة أرسطو بل لعله متجاوز لها، وإذن فنقد ابن تيمية يتعلق بنظرية المعرفة والقول بالمطابقة وبطبيعة المعاني الكلية التي ردها إلى دور اللغة المعبرة ونفى عنها دور العنصر المقوم لموضوع المعرفة.
 
هل هناك فلسفة عربية أصيلة معاصرة، أم أنها تكرار لماضينا أو تقليد لحاضر الآخرين؟ 
إذا استمعنا لمن يدّعون تقديم مشروعات ثورية، فإن مزاعمهم تجعلنا نتصور أن فكرنا الحالي متقدم على العالم كله. لكني أشك عميق الشك في جدية هذه الدعاوى وخاصة عند فريقين يدعواني إلى الحيرة، هما الفريق المطالب بحق التفلسف والتركيز على استثنائنا من الكونية بدعوى الخصوصية، والفريق اللاهث وراء الموضة كلما سمعوا بموضة جديدة في صحافة التقريب الجمهوري في الفكر صارت "علكتهم" اليومية، ومن أمثلة ذلك كثرة الكلام على ما بعد الحداثة والسيلان في كل شيء.
 
لذلك فإني أكتفي بمحاولة فهم مسار الفكر الإنساني ومنزلة المرحلة التي كان الفكر فيها ناطقا بلسان القرآن، لأن العربية صارت كونيا لغة العلم والفلسفة والدين، مثلها مثل اليونانية قبلها واللاتينية بعدها واللغات الأوروبية الحية حاليا بعدها وخاصة الإنجليزية والألمانية.
 
في كتابه "استئناف العرب لتاريخهم الكوني" يحلل المرزوقي ثورة تونس من منظور تونسي (الجزيرة)
من هم أساتذة أبو يعرب المرزوقي ؟
في الاختصاص الأصلي، أي في الفلسفة، يمكن الكلام على أساتذتي المباشرين أي الأحياء، وعلى أساتذتي غير المباشرين بأعمالهم لأنهم من السلف في الميدان.
 
فالأحياء الذين درسوني مباشرة، أذكر (المفكر الفرنسي) ميشال فوكو مدة سنتين في تونس، والفيلسوف الفرنسي جان هيبوليت مترجم هيغل وريكور في دورات أساتذة زائرين لكلية العلوم الإنسانية في جامعة تونس الأولى خلال نفس المدة وغيرهما، والفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، والفيلسوف النمساوي وتغنشتاين، وجُلّ فلاسفة مدرسة فرانكفورت.
 
ومن الأموات طبعا أفلاطون وأرسطو وديكارت والفلاسفة الألمان لايبنتز وكانط وهيغل وغيرهم، وغوته وشلنغ وفشت ونيتشه وهوسرل، وكل فلاسفة الإسلام من الكندي إلى ابن رشد.
 
أما في القانون، فكان أهم من درست عنده في باريس القانون الإداري هو أشهر علمائه الفرنسيين جورج فودال.
 
شاركت بأعمال مشتركة مع حسن حنفي والطيب تيزيني ومحمد سعيد رمضان البوطي وآخرين، ويبدو هذا غريبا نوعا ما، إذ إن الفيلسوف في العادة لا يقبل المشاركة في أفكاره. كيف تقيم هذه التجربة وماذا عن شركائك في الكتابة؟
مشاركتي لم تكن مزجا بين فكري وفكر غيري بل محاولة لعلاج معضلات كنت أعتبرها من علل تخلف الفكر في نهضتنا، لأنه لم يستطع لا تجاوز الميت من تراثنا ولا استيعاب الحي من تراث الغرب، لأن ما يسمونه تحصيلا للفكر الغربي هو أقرب إلى تجارة "الروبافاكيا" (الأثاث المستعمل) وليس فكرا حيا.
 
والفكر الحي كوني وواحد في كل حضارة مبدعة وحية، سواء كانت قديمة أو حديثة، لأن حياة الفكر ليست مضمونية بل هي بالأساس شكلية، وهي بالجوهر متعلقة بالعلوم الأدوات وليس بالعلوم الغايات التي تتعلق بالأساس من الحاجات في علاقة الإنسان بالطبيعة وبالتاريخ، ولا يتقدم الإنسان في علاج هذه الحاجة إلا بتجويد العلوم المساعدة أو الأدوات بمستوييها الرمزي (مثل الرياضيات) والتقني (مثل أدوات الرصد والتجريب في المخابر).
 
في كتاب "إشكالية تجديد أصول الفقه" تناول المرزوقي والبوطي وجهتي نظر مختلفتين في موضوع أصول الفقه (الجزيرة)
تكتب في الفكر الإسلامي وفي العلوم الدينية (الشرعية) وينتقدك كثيرون في هذه الناحية، ليس لكونك تنظّر لوحدة الفكرين الديني والفلسفي، ولكن لآراء قد يعتبرونها غير مألوفة، مثل موقفك النقدي لكل من ابن رشد والغزالي، وتبنيك للموقف التيمي بلا تحفظ. كيف تنظر لذلك؟
كل ما في الأمر هو أن الناقدين لموقفي هذا يتصورون أن الفاصل بين الفكرين الفلسفي والديني علته ناتجة عن مقومهما من حيث هما فكر وليس عن توظيفهما في معركة الاستفراد بالسلطة المستمدة منهما. فلا الفلسفة فكرها محيط ولا الدين فكره خرافي. فلو نزعت هذه الدعوى ونظرت في الفكرين فإنك تجد أن ما يميز بينهما هو تقابل التراتب بين النظر والعمل وبين الطبائع والشرائع. لكن المسارين لا ينفصلان. فالفلسفة تنطلق من النظر في الطبائع والعقائد (الفلسفة النظرية) وتنتهي إلى العمل في الشرائع (الفلسفة العملية). والدين ينطلق من العمل والشرائع وينتهي إلى النظر في الطبائع والعقائد. فمن ينقدني لا يزال عائشا على خرافة المطابقة بين إدراكه والوجود في النظر والعمل، وهي خرافة سماها ابن خلدون وهم الفلاسفة.
 
ماذا عن تحولاتك الفكرية، هل قمت بمراجعة لأفكارك، وهل نشرت آراء نقدية للذات؟
ما كتبت شيئا في حياتي وكأنه عمل نهائي، فكلما رجعت إليه طورته. ولا تطوير من دون نقد ذاتي، وهذا ما سيحكم به من يمكن أن يراجع محاولاتي في فلسفة العلم والطبيعة وفي فلسفة الدين والتاريخ، سواء تعلق الأمر بدروسي حول الفكر اليوناني وتأثيره في فكرنا أو في ما اعتبره شرطا في تدارك ما نحتاج إلى تداركه حتى نعيش عصرنا الحالي، فنتجاوز الميت من تراثنا ونستعيد الحي منه بصورة تجبر الكسر في تاريخنا الفكري المتعلق بالنظر والعقد وبالعمل والشرع، سواء من منطلق العلوم التي تعتبر تابعة للدين أو من منطلق العلوم التي تعتبر تابعة للفلسفة علما.
 
وإني لا أقبل تمييز الغزالي بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فالقرآن لا يفصل بينها بل يعتبر علوم الدنيا (أي علوم الإنسان المستعمر في الأرض) متأصلة في علوم الدين (أي علوم الإنسان المستخلف فيها)، بوصف كلا النوعين مشدودا إلى ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ الماوراءين المحددين للمُثل التي يشرئب إليها الإنسان لئلا يخلد إلى الأرض.
 
المرزوقي يناقش في كتابه "إصلاح العقل في الفلسفة العربية" واقع الفلسفة العربية الحديث (الجزيرة)
كتبت في إحدى تدويناتك مخاطبا الشباب السعودي: "من المفروض أن تكونوا في وضع شبيه بما عليه الدول الغنية في أوروبا، أو حتى من أجواركم مثل الكويت وقطر". ما الرسالة التي أردت إيصالها من خلال التدوينة؟ 
الرسالة واضحة: وهي سؤال ضمني، فإما أن الشباب السعودي -وخاصة المبتعث منه- قد تعلم فعلا ما ذهب لتعلمه ثم عاد ليحقق ما تحتاج إليه السعودية لتصبح بلدا يعتمد على أبنائه وليس على عمالة أجنبية في كل الميادين وهم عاطلون رغم التحصيل الجدي، أو أن الابتعاث خدعة تنتهي باشتراء شهادة دون تحصيل فعلي للكفاءة المغنية عن العمالة الأجنبية، ومن ثم فينبغي علاج الأمر بجدية سواء كان الأول أو الثاني.
 
ماذا عن مشكلة الحكم في العالم العربي، عن الثورات العربية بعد خريفها الذي يصفه البعض بالقاتم، هل ترى بشريات عربية تلوح في الأفق؟ 
نحن لسنا في خريف قاتم بل ما زلنا في عزّ الربيع، وهو ربيع دائم بسبب غباء الثورة المضادة، فهي لم تدرس تاريخ الثورات السابقة في العالم. فالحلف المقدس هزم نابليون، لكن الثورة الفرنسية هزمت تحالف ملوك أوروبا، وما من ثورة هُزمت فكريا حتى لو خسرت معركة صدام القوى المادية.
 
والثابت أن الثورة المضادة العربية خسرتهما معا، فهي أفلست نهائيا ماديا أولا لأنها لم تربح أي حرب في المشرق أو في المغرب لأن الثوار ما زالوا صامدين، وخسرت كل المعركة المعنوية لأن شعوبها نفسها بدأت تتململ وسيشرح كورونا وانهيار أسعار النفط هذا التململ حتى تنتقل الثورة إليهم في عقر دارهم وقريبا جدا، وتلك هي البشريات التي تلوح في الأفق، ومثلما بدأ الربيع من المغرب (تونس) فهزيمة الثورة المضادة أيضا بدأت من المغرب (ليبيا).
 
كيف ترى عالم ما بعد جائحة كورونا وطنيا (تونسيا) وعربيا وعالميا؟
سأكتفي بالقول إن الإنسانية ستدرك حاجتها إلى التواضع، وتفهم أن نسبة الأضرار التي لحقت بالشعوب متناسبة مع ظاهرتين:
 
التلوث المادي للبيئة الطبيعية وأنظمة الغذاء المادي شرط القيام العضوي للإنسان.
التلوث الروحي للبيئة الثقافية وأنظمة الغذاء الرمزي شرط القيام الروحي للإنسان.
ومراجعة هذين النظامين هي ما يبشر بأن مستقبل الإنسانية أصبح رهن فهم أهمية الرسالة الإسلامية التي تعرّف الإنسان بكونه معمرا للأرض بقيم الاستخلاف، وهو ما يعني أن الإنسانية ستدرك أن ما كان الأقوياء يحاربونه سيجعلهم ينتبهون إلى ضعفهم، ويدركون ألا منجاة لهم من الطغيان المادي إلا بالعودة إلى رؤية القرآن للإنسان من حيث هو كائن مكرم ومكلف، وأن البشر إخوة (النساء 1) لا يتفاضلون عند الله بالعرق ولا بالطبقة ولا بالجنس ولكن بالتقوى والتعارف معرفة ومعروفا، وعندئذ سيفهم المسلمون معنى أنهم شاهدون على العالمين ليس بالأقوال بل بالأفعال، وهو ما يعني أنهم هم بدورهم بحاجة إلى فهم القرآن وعدم الاقتصار على الشعائر الإسلامية شكليا دون ثمارها الخلقية والقيمية، فيتحررون من الكذب والنفاق والتظاهر بالفضيلة مع اقتراف الرذيلة، كبائرها وصغائرها. فمن دون هذه الثورة الروحية والخلقية سيكون غير المسلمين من أهل القرن الحالي أقرب إلى قيم القرآن منهم.
 
المصدر : الجزيرة