الغد
في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر الماضي، انخرط القوميون واليساريون والرومانسيون العرب، في تحليلات فوق واقعية، حاولت قراءة المشهد المستقبلي للحرب التي كانت تتسع أطرافها بالتدريج، مؤملين أنها ستكون بداية النهاية للكيان الاستعماري الصهيوني. لكنّ الوقائع وردود الأفعال العالمية من عواصم القرار، كانت تقدم بيانات مخالفة كثيرا لتلك القراءات الرومانسية.
تدمير قطاع غزة، وقتل عشرات آلاف المدنيين، وتشريد الملايين، إضافة إلى ارتكاب مئات المجازر، والتفنن بجرائم الحرب تحت أبصار العالم كله، والذي لم يتحرك فعليا لوقف أي من هذه الجرائم، جميعها كانت تؤكد أن الكيان الصهيوني يريد أن يستغل الحدث حتى آخر لحظة، وأنه لن يترك الفرصة، خصوصا مع وجود رئيس وزراء فاسد تهدده الملاحقات القانونية، ويرى أن خلاصه الوحيد بالاستمرار بإشعال الحرائق في المنطقة.
بالتزامن مع المحرقة التي أدارها الكيان الصهيوني في غزة، كانت الضفة الغربية تحت إرهاب اليمين المتطرف والمستوطنين الإرهابيين النازيين، ما كان يشي بأن كيان القتلة يريد تنفيذ final solution، خاص بالفلسطينيين، للخلاص منهم إلى الأبد.
الأمر بدا واضحا تماما، من خلال وحشية العدوان على القطاع، وأيضا من خلال محاولات جرّ إيران وحزب الله اللبناني، إلى النزاع المسلح، رغبة من الكيان بأن ينهي التهديد المزمن في شمال فلسطين المحتلة. وقد استطاع توريط حزب الله في "اللعبة" التي أعد لها جيدا، والتي كان يرجو ألا تبدأ قبل أن يستطيع كبح جماح قوة حركة حماس العسكرية، بحيث لا يضطر إلى فتح جبهتين معا.
رأينا كيف أن الكيان تحول سريعا إلى الجبهة اللبنانية حالما تأكد أن حركة حماس فقدت الكثير من قدراتها، ولم تعد فاعلة في قوتها النارية الهجومية، بينما استطاع "تحييد" إيران بعض الشيء، فيما جاءت الردود الهجومية بين الطرفين من باب تأكيد مبدأ الردع. لكن بقاء إيران خارج معادلة التصعيد ليس مضمونا تماما حتى الآن، وهي تجري حساباتها الدقيقة لرد محتمل قد يدفع بالأمور كثيرا إلى الأمام.
تحليلات الرومانسيين العرب لا تمتّ إلى الواقع بأيّ صلة، فالثابت أن الشرق الأوسط الجديد الذي بشّرت به وزيرة الخارجية الأميركية المتطرفة كونداليزا رايس في العام 2006، يتم تحقيقه بالتدريج، وبكثير من الجرائم والإبادة الجماعية على يد أكبر قوة متوحشة تعيش اليوم في العالم، ويطلق عليها اسم "واحة الديمقراطية"!
في ذلك التاريخ، حالت التزامات الولايات المتحدة العسكرية في العراق وأفغانستان دون توسعها بالمواجهات المباشرة لفرض نظام جديد بالقوة، لتستبدله لاحقا بمحاولات داخلية لزعزعة الأنظمة القائمة، عبر "حركات" أوحت بأنها شعبية، وهي ما سمّيت جزافا بـ"الربيع العربي"، الذي عملت فيه الولايات المتحدة مع قوى إقليمية لتدشين النظام الجديد، والمبني على "تفتيت" دول المنطقة إلى دويلات و"دوقيات" مذهبية وطائفية وإثنية صغيرة منزوعة القوة ومتناحرة، وهو الهدف الذي حققت جزءا منه خلال احتلال العراق و "الربيع العربي".
المقاربتان فشلتا في تغيير الواقع الشرق أوسطي، والمبتلى بكثير من المخططات التي تم تنفيذها، وأخرى ما تزال في الأدراج في حال لم ينجح المخطط الراهن. لكن واشنطن اليوم ترى أن تل أبيب قادرة على تنفيذ ما لم يكن واقعيا في السابق، لذلك فهي تطلق يديها لارتكاب أبشع إبادة جماعية في التاريخ الحديث، وكل ذلك من أجل ألا تبقى المنطقة بلا وصاية، أو "نخاسين"!
بصرف النظر عمّن ستجلبه نتائج الانتخابات الحالية إلى المكتب البيضاوي في واشنطن، فكلا الحزبين؛ الديمقراطي والجمهوري، متفقان على تغيير جذري في المنطقة، ولعل الخلاف يكمن في الطريقة التي ينظر فيها الحزبان للتغيير. وبعدها سنعرف الدول التي ستدفع الثمن الأكبر من هذا التغيير العبثي!