عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    08-Apr-2021

ماذا نترجم..؟!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

ذات مرة، تلقيت من دار نشر عرضاً لترجمة رواية مهمة من أفضل الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة. وبعد أن قطعت شوطاً جيداً في ترجمة نص لم يكن سهلاً، قررت الاعتذار عن الترجمة، (لأنني لم أكن مرتاحاً). فكرتُ في ذلك الحين: كاتب الرواية يهودي، وأبطال الرواية يهود أميركيون. وفي الحقيقة، لم تكن في الرواية أي إشارة إلى الكيان الصهيوني، ولم يرد فيها أي ذكر للعرب أو مشكلة الشرق الأوسط. كان موضوعها تاريخ عائلة يهودية في أميركا وتفاعلاتها هناك، انتهاءً بابنة مراهقة تخرق التقاليد، وتتمرد وتنضم إلى حركة مناهضة للحرب في فيتنام، وتشارك في الاحتجاجات إلى حد زرع قنابل. وربما كان العامل المهم وراء عدم الارتياح هو الجهة التي علمت أنها تموّل الترجمة، ودفعني شكي في نواياها إلى التفكير بأنه لا بد أن يكون هناك شيء وراء اختيارها لا أدركه.
باستبعاد مسألة الجهة الراعية، تساءلتُ منذ ذلك الحين عن شروط العمل الذي يمكن ترجمته، وملتُ إلى التفكير بأن قصة الكاتب اليهودي والعائلة اليهودية تعارضت جوهرياً مع تصوراتي العامة عن المعرفة وما أبشر به. في النهاية، ينتمي هذا الموقف إلى اختيار إغلاق الأذنين والعينين عن سماع ورؤية شيء يقال ويحدثُ في العالم كطريقة لإنكار وجوده وعدم الرغبة في إطلاع الآخرين عليه. ويبغي أن يكون هناك فرق بين رفض الاطلاع على شيء مطروح وبين رفض أطروحته أو قبولها. ولا ينبغي أن يكون الانفتاح على المعرفة ،وللمعرفة، موقفاً شخصياً، وإنما موقف ثقافي/ سياسي سائد إذا ما أريد لهذه الأمة أن تكون حاضراً واعياً في العالَم، يعرف عنه، ويتفاوض معه من موقف العارف بما يُباع عليه وما يعرضه.
ماذا نترجم، سؤال محاط بالمشاكل، أسهل إجابة عنه هي سرد العناوين: «الترجمة العلمية، والقانونية، والسياسية، والأدبية، والتتابعية، والفورية»، كما قيل في مؤتمر أخير عن الترجمة. لكنّ هناك عملياً عشرات الأشياء التي تحدد ما يجده الناس في سوق الترجمة.
هناك العامل التجاري الذي يجعل الناشر يفكر في مادة يُمكن أن تُجاز في أكبر عدد من الدول العربية. وهناك موقف الجهة الراعية للنشر، الذي يجعلها تستبعد كل ما يتعارض مع هذا الموقف. وهناك الخوف من الميل الشائع إلى لصق موقف المادة المترجمة بالناشر والمترجم. على سبيل المثال إذا ترجمتَ نصاً لصهيوني يصف العرب بأنهم إرهابيون، تُعامل كأنك أنت الذي وصفتهم كذلك – مثل الممثل الذي يتقمص دور شرير في عمل فني، فيسبه الناس في الشارع.
وهناك اتهامك بأنك تعبث بالأخلاق، أو الدين، أو تحرض على الثورة والاضطرابات، إذا ترجمت شيئاً «موت الأيديولوجيا» مثلاً، أو المثليين، أو شيئاً كتبه سياسي غربي أو صهيوني فضح فيه صفقات سياسية، أو عرض فيه قراءة لا تُعجِب للمجتمع العربي – ومئات المحرمات. ومن تجربتي، مثلاً، إن دولة عربية رفضت إجازة عمل أدبي مترجم لأن شخصية فيه تعبر عن موقف شخصي من الدين. وعرفت عن تردد في ترجمة عمل داروين المهم، خوفاً من ردة فعل تتهم الجهة التي تترجم تفسيراً لأصل الأنواع غير الرواية الدينية، بترويج الكفر… وهكذا.
باختصار، يميل الاختيار العربي السائد، بشقيه الثقافي والسياسي، إلى عدم الرغبة في سماع أي كلام مختلف قد يحرك التصورات الساكنة العنيدة غير المرنة التي تكوّن هذه المنطقة، حتى مع أن كل شيء في الواقع يُملى على العرب، سواء في المعرفة أو السياسة -بل وحتى طريقة حياتهم نفسها في «الليمبو» الشرير الذي علقوا فيه.
هذه الانتقائية سيئة المشورة لما نترجم ونسمعه طباق للقرد الذي لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم. إنها تجردنا من إمكانية فهم العالم وإدراك موقعنا فيه. وبذلك تجردنا من إمكانية الردّ، لا عملياً ولا معرفياً، والمراوحة في المكان الضيق فاقد الخيارات والخيال.
ماذا نترجم، قد نجيب في صفحات، وقد نجيب في كلمتين: كل شيء. ينبغي الإعداد لإمكانية سماع الجميع، في الشرق والغرب والجنوب ومن كل اللغات. وينبغي البدء في الترجمة من العبارة الأولى من دون حتى الاطلاع على كل النص لأجل «التقييم» الذي سيستبعد الكثير. بعد كل شيء، هذا شيء قيل في العالَم، وينبغي سماعه. لكن التصور بعيد المنال، بطريقة مخيبة.