عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Sep-2022

أرمن سورية يجدون في يريفان موطنا جديدا لهم

 الغد-تيغران ييغافيان – (أوريان 21) 30/8/2022

منذ قرابة العقد، استقر في أرمينيا عدة آلاف من الأرمن السوريين الفارين من المعارك في حلب، وأعادوا بناء حياتهم من جديد في هذه المنطقة من القوقاز. ويحاول نظام دمشق -الذي طالما كان قريبًا من نظام يريفان- إعادتهم إلى حلب.. لكن دون نجاح يُذكر.
* * *
وحده ضوء باهت ينير صالون الحلاقة الذي يشبه مئات الصالونات الأخرى في يريفان. هنا في شارع يزنيك كوباتسي، على مرمى حجر من ساحة الجمهورية، تشكلت حلبٌ صغيرة في قلب العاصمة الأرمنية. يجلس حلبيّون مسنّون ليشربوا القهوة بالهيل أمام محلاّتهم. وباستثناء لوحات السيارات ونوعية حجر المباني، يمكن للمرء أن يظن نفسه في حلب، في حي العزيزية أو السليمانية المسيحيَّين، قبل أن تدمّرهما الحرب.
في صالون حلاقة “كوكو”، يتبادل الحاضرون أطراف الحديث، ويأتي الزبائن بآخر الأخبار. “هل نزلتَ إلى حلب؟ لدي أرض في كسب أرغب في بيعها، لكنني أحتاج إلى مستند خاص”. يعود بعض الأرمن السوريين في الشتات إلى حلب لبيع شقة أو محلّ تجاري والعودة بالمال، لكن ذلك قد يعرّضهم إلى بعض التعقيدات مع الجمارك الأرمينية.
“علينا أن نتكيّف قدر الإمكان”
بمجرّد أن يدخل ضيف جديد إلى صالون الحلاقة، يغيّر الشاب الذي يحلق لحيتي لغة حديثه من الأرمنية إلى العربيّة. كيف ينظر إلى حياته في أرمينيا، وهو الذي ترك حلب منذ أقلّ من عامين؟ “ليس الجنّة ولا الجحيم، هي فقط بلاد يتعيّن عليك فيها أن تتكيّف قدر الإمكان”. منذ عشر سنوات، لجأ عشرات الآلاف من الأرمن السوريين بصفة مؤقتة أو دائمة إلى أرض أجدادهم. وحتى تلك الفترة، كانت أرمينيا بمثابة المنتجع، حيث كانت مدة رحلة الطيران ساعة و20 دقيقة من حلب (وأصبحت ساعتين و15 دقيقة منذ أن أغلقت تركيا مجالها الجوي). وكانت البرجوازية السورية الأرمنية تأتي هنا لاستنشاق الهواء النقي، بعيدًا عن أعين مجتمع حلب المحافظ للغاية. وحتى اليوم، تربط رحلة أسبوعية لشركة “أجنحة الشام” دمشق وحلب بيريفان، وتبلغ تكلفة الرحلة ذهابًا وإيابًا بين حلب ويريفان حوالي 500 دولار.
الآن، أصبحت أرمينيا بأديرتها العديدة وجهة صيفيّة مميّزة لهؤلاء المسيحيين المنفيين، حيث يحتفلون بزفاف أو تعميد، وتكون تلك فرصة للعائلات التي شتّتتها الحرب لتجتمع حول مأدبة.
وصل العديد من الحلبيين إلى أرمينيا في الرحلات الأخيرة من صيف 2012، حاملين حقيبة سفر مليئة بثياب صيفية. هل هم لاجئون؟ لا يقبل أي من الأطراف المعنية هذا التعريف. ففي ذروة معركة حلب، سهلت وزارة الشتات الأرمينية حصولهم على الجنسية وقدمت لهم المساعدة وبعض الخدمات الاجتماعية بالشراكة مع المنظمات غير الحكومية المحلية. ولمدّة عام، تمكّن الأطفال من مواصلة تعليمهم وفقًا لبرنامج وزارة التربية الوطنية السورية في مدرسة خُصّصت لهذا الغرض. وبقي ثلث “اللاجئين” في هذا البلد الذي يُعتبر أساسًا نقطة انطلاق نحو كندا -وجهتهم الرئيسية- والسويد، وأستراليا، وبدرجة أقل فرنسا.
اندمج قرابة العشرة آلاف أرمني الذين ظلّوا في يريفان من دون التدخّل في الجو العام، لكن المدينة استفادت من معرفتهم ومواهبهم، على الأقل في عدد المطاعم التي تقدّم مجموعة من الأطباق الشرقية الممتازة، والتي فتحت أبوابها في العاصمة. كما يتمتّع السوريون الأرمن بسمعة جيّدة بفضل رصانتهم وطاقة عملهم، ما سهّل عليهم فتح شركات صغيرة ومتوسطة، بينما وجد الشباب عملاً في قطاع التكنولوجيات الجديدة.
“الحياة هناك أصبحت لا تُطاق”
ليفون بلخيان، صاحب الشارب الكثيف، هو أحد أصحاب الشركات الذين يتطلعون إلى الأمام من دون النظر إلى الوراء. في البداية، وضع ليفون أطفاله في مأمن في أرمينيا، ثم التحق بهم في نهاية المطاف في العام 2015، ليبدأ نشاطه التجاري في صناعة ملابس رياضية على الصعيد المحلي. ويوظّف ليفون 25 شخصًا بشكل مباشر، وحوالي خمسين آخرين بشكل غير مباشر من خلال ثلاث ورش تعمل بأقصى قدرتها. وتكمن وصفة النجاح في إتقانه لسلسلة الإنتاج وجودة منتجاته. أما سلطات الضرائب الأرمنية، فتتركه وشأنه. فهو يدفع ضرائبه ولا يزعج أحدا ولا يشعر بالحرج من أي شيء. في حلب، يحتفظ بعض أقاربه بشقته في منطقة سكنية راقية. وتبدو العودة احتمالا بعيدا بالنسبة له. فبرغم توقف الحرب في مدينته، ما يزال هناك نقص شديد في الكهرباء وزيت الوقود والماء.
يقول ليفون: “مرة في السنة، يزورنا ممثل عن الحكومة السورية ويجتمع بكامل الجالية. إنهم يحاولون حثنا على العودة، حتى أنهم يقولون إنهم مستعدون لتغطية أثمان تذاكر الطائرة. الناس هنا مهذبون ومتحفظون، لا يجرؤون على الرفض علناً، لكنهم يعرفون جيّدا في قرارة أنفسهم أن الحياة هناك باتت لا تُطاق من تدفئة، ولا كهرباء، ولا خدمات عامة، ولا حدّ أدنى من الرفاهية.. في تلك الأثناء، قام الأتراك بتوطين سكان معادين لنا على بعد بضع كيلومترات من حلب، في منطقة إدلب، كما نهبوا معظم ممتلكاتنا”. لقد أصبحت سورية تعني محاولة العيش بليرة فقدت 80 % من قيمتها، والاكتفاء بمتوسط راتب يبلغ 25 دولارًا. وقليلون من هم مستعدون لمثل هذه التضحيات.
أروج يسيان رائد أعمال أصيل من مدينة تل أبيض، وهو ينشط كثيراً في صفوف الجالية. كان يتاجر بقطع غيار السيارات في حلب، والتي كانت من اختصاصات الأرمن قبل الحرب، ما مكّنه من التمتع بأسلوب حياة مريح. يتنهد أروج قائلاً: “بات الأرمن السوريون في أرمينيا يعانون اقتصاديا واجتماعيا بسبب ارتفاع الإيجارات والضغط العقاري”. ولا يشكو أروج أمره، فهو يكسب عيشه جيدًا بفضل عمله في قطع غيار الثلاجات ومكيفات الهواء. لكنه يفتقد أبناءه وأحفاده الذين انتقلوا للعيش في كندا والولايات المتحدة. كم عدد الأرمن الذين بقوا في سورية؟ “لم يتبق في حلب سوى 8.000 أرمني، و1000 فقط في دمشق، و100 عائلة في كسب، و200 في القامشلي. أما في طرطوس، فعددهم لا يتجاوز الخمسين حلبيّاً”.
“يجب أن تُؤخذ أصواتنا بعين الاعتبار”
يبلغ أرارات قسطانيان من العمر 39 عامًا، وهو باحث في معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم، ويُعِدّ أطروحة دكتوراه حول الأقلية الأرمنية في سورية في إحدى الجامعات الإندونيسية. وهو يدرك جدّا البعد الاستراتيجي للعلاقات الأرمينية-السورية: “لقد اندمج أرمن سورية جيدًا في النسيج الاجتماعي والاقتصادي، وهم لا يشعرون كثيراً بالغربة. أرمينيا قريبة جدا من أسلوب حياتهم الشرقي. عموما، تم استقبالهم بشكل جيد، ولا يمكن أن نتحدث عن تمييز”. وبرغم ذلك، يشير أرارات إلى قلة اندماج الأرمن السوريين في الحياة العامة: “صحيح أنهم يعيشون في أرمينيا، لكنهم ظلّوا في قوقعتهم. يجب تغيير العقليات. يقول أصدقائي إنه لا ينبغي التدخل في الحياة السياسية الأرمنية، لكنّني لا أتفق معهم. أرى أنه علينا أن ننشط في جميع المجالات، وأن نخرج من حيّنا الضيق، حتى تُؤخذ أصواتنا بعين الاعتبار”. يشير هذا الشاب إلى ثقل رجال الأعمال السوريين الأرمن في يريفان ويضيف: “أعتقد أن تعزيز هذه العلاقة الاقتصادية سيجعل من الأرمن السوريين جسراً بين البلدين”.
كانت الجمهورية العربية السورية من أوّل الدول التي اعترفت باستقلال جمهورية أرمينيا الفتية. ولطالما كانت العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين وثيقة برغم تواضعها. وفي العام 1992، تبرّع الرئيس حافظ الأسد بنحو 6.000 طن من القمح لأرمينيا بعد الحظر الطاقي الذي عرّض البلاد إلى الشلل التام، خلال الحرب مع أذربيجان.
سفيرة مقرّبة من أسماء الأسد
كما وضعت سورية تحت تصرف الأرمن بداية التسعينيات منطقة حرّة واسعة في حي التلل المسيحي بحلب، لتسهيل تصدير السلع الاستهلاكية اليومية. ومن جهتها، أبقت أرمينيا على سفارتها مفتوحة في دمشق. أما السفيرة السورية الجديدة في يريفان، والتي تم تعيينها بمرسوم رئاسي في ربيع العام 2022، فهي النائبة السابقة للطائفة الأرمنية بدمشق في مجلس النواب السوري، وتدعى نورا أريسيان. وهي مؤرخة، وقد كتبت أطروحة رائعة حول موقف المثقفين السوريين أثناء الإبادة الجماعية للعام 1915، كما أنها لا تخفي صداقتها مع سيدة سورية الأولى أسماء الأسد. وتُعدّ تسميتها ذات رمزية مهمة، فهي أول امرأة أرمنية تمثل سورية في أرمينيا.
تتحدّث نورا أريسيان العربية والأرمنية، وتطمح إلى فتح مركز ثقافي سوري في يريفان، حتى يبقى أبناء الجالية السورية الأرمنية هناك على صلة وطيدة باللغة والثقافة العربيتين. كما تريد تعزيز الدراسات العربية في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم وفي جامعة يريفان، اللتين دأبتا على تهيئة أجيال من المستعربين على مدى عقود. ولكن، من أجل تحقيق كل ذلك، يتعين على السفيرة إقناع شركائها بإرسال الطلبة إلى دمشق، كما كان الحال حتى العام 2012.
مباشرة بعد توليها هذا المنصب، جمعت نورا أريسيان حوالي خمسين من رواد الأعمال السوريين الأرمينيين لدراسة إمكانية إقامة علاقة ثنائية لم يتم استغلالها حتى الآن بشكل كبير. وهي بذلك تعتبر أرمينيا بوابة السوق الأوراسية بالنسبة لرجال الأعمال السوريين، وتسلّط الضوء كذلك على النقاط المشتركة بين يريفان ودمشق، مثل الدفاع عن الأقليات في الشرق، وتَقارب وجهات النظر حول القومية التركية أو القومية الإسلامية. وتَلقى هذه السردية المحبوكة صدًى إيجابيًا في دمشق، حيث تتوق الحكومة إلى عودة البرجوازية الأرمنية الحلبية بهدف إعادة بناء البلاد. لكنّ هذا الطموح يبقى في الوقت الحالي مجرّد أمنية، طالما أن العقوبات الدولية تَحول دون الأمل في ولادة جديدة.
 
*تيغران ييغافيان: صحفي مختص في أقليات الشرق. ترجمت هذا المقال من الفرنسية سارة قريرة.