«الدستور» تستعرض مقتطفات من كتاب «وصفي التل.. الملف رقم صفر»
الدستور-محمود كريشان
في البدء.. «وصفي».. لا زالَ داليةً فينا نَفيءُ إلى ظِلالِها بنَدى الأُردن نَسْقيها وَصْفي!.. ويكفي بأنّا حينَ نذَكُرُه نَزْدادُ فخراً ونَزْهو باسْمِهِ: تيها فقد أَضاءَ الدَّمُ الغالي.. الدَّروبَ لِمَنْ ضَلَّوا الدَّروبَ وغابوا في دَياجيه!!..
نستعيد ذاكرة الطفولة المجبولة بالحزن الكظيم، في «حي المعانية»، ذلك المكان العماني الوادع، على جانبي الطريق المؤدي، إلى مطار ماركا القديم، لنتذكر لوعة الفراق، في تلك الظهيرة الجنائزية الكئيبة، في شهر تشرين الثاني العام 1971، وقد التاعت القلوب التي أدماها الفراق، بمشهد الموكب المهيب، لجثمان الشهيد وصفي التل، محاطا بالزنود والجنود، الذين امتطوا سيارات الروفر العسكرية الحمراء المكشوفة «الموكب الأحمر»، وقد تلثموا بشمغهم الحمراء أيضا، لإخفاء دموعهم على عزيز رحل، فيما ارتفع نواح «المعانيات» لحظة مرور الموكب المسيج برايات الأردن ونواحهن يعلو: يا بيض حدن على «وصفي».. قُصن شعور الثنا كله!..
ظهيرة قاتمة.. طقسها حائر، سماء ملبدة بغيوم داكنة.. لكن بلا مطر.. رايات سوداء ارتفعت بؤسا وحدادا، فوق أسطح المنازل، أجهزة التلفزيون «الأبيض والأسود» مطفأة في البيوت، لم تفتح إلا على نشرة أخبار الساعة الثامنة مساء.. المغفور له بإذن الله تعالى الملك الحسين، الأمير الشريف زيد بن شاكر، المشير الركن حابس المجالي، مريود وسعيد التل، محمد رسول الكيلاني وآخرون..جميعهم «طاقين اللثمة» على أرض المطار، يمسحون دموعهم بأطراف كوفياتهم الحُمر.. و»طق اللثمة» بمفهوم الأردنيين، يأتي لإخفاء الدموع.. لأن بكاء الرجال «عيب».. لكن ما العمل إذا كان الفقيد بحجم «وصفي».. ومن مثل «وصفي»؟..
«الدستور» تستعرض مقتطفات من كتاب «وصفي التل.. الملف رقم صفر» الذي صدر أخيرا ويوزعه كشك الثقافة العربية شارع فيصل بجانب البنك العربي وسط البلد وقد جاء فيه معلومات مهمة تنشر لأول مرة ومن ضمنها:
وصفي يحمي ياسر عرفات
يقول اللواء الركن المتقاعد المرحوم محمد بشير الشيشاني قائد الاستخبارات الأردنية سنتذاك: بدأ الاتجاه لتأسيس مقاومة منظمة في الضفة الشرقية، تمهيدا لنقلها للداخل، إلا إن ياسر عرفات كان سباقا لذلك، حيث برزت منظمة فتح، ومن ثم وبعد معركة الكرامة خاصة، مجموعات أخرى، كان ولاء جميعها لخارج الأردن، وعاش الأردن منذ ذلك الوقت ولغاية أيلول من عام 1970 في جو من الفوضى حيث غاب النظام والقانون، وأصبح الحكم بيد فئات مسلحة، تدين بولائها وعملها، لصالح دول الجوار وغيرها.
وبعد الأحداث التي وقعت في أيلول، وتمكن الجيش من السيطرة على أمور البلد، شكلت حكومتان إحداها من قبل محمد داوود العباسي، ولم تدم طويلا، ومن بعده أحمد طوقان، ومن ثم كلف وصفي لتشكيل حكومة تعيد للأردن وضعه الطبيعي، وبالتنسيق مع رئيس وفد الجامعة العربية باهي الأدغم، رئيس وزراء تونس سابقا والوفد المرافق له، وكذلك مع ياسر عرفات، إلى أن وقع الاعتداء الكبير على مركز الشرطة في جرش، من قبل مجموعة مسلحة، وقتلت عددا منهم، عندها حضر إلى الموقع المرحوم وصفي ومعه ياسر عرفات، لمعرفة حقيقة ما وقع، حيث طلب الجنود من وصفي الابتعاد عن أبو عمار، بقصد الاعتداء عليه ولربما لقتله، إلا إن وصفي احتضنه وأدخله سيارته، وأبعده عن هذا الجو وحافظ على حياته.
بعد أن هدأت الأمور في البلد، وعدم موافقة أبو عمار المشاركة في تنسيق وتنظيم أمور المقاومة مع المرحوم وصفي في الأردن، طلب المرحوم من جهاز الاستخبارات العسكرية، بتبني القطاع الغربي من فتح، تمهيدا لإنشاء مقاومة سلمية يتم تدريبها وتهيئتها في الضفة الشرقية، وتنقل تدريجيا إلى الضفة الغربية، وقد تم ذلك بالتنسيق مع مسؤول القطاع الغربي عمر الخطيب، حيث تم فرز عدد من أفراد هذه المجموعة، حسب توصية المسؤول وإرسالهم إلى معسكر التدريب في منطقة الأزرق، كما تم فرز عدد من ضباط الجيش، لتدريبهم ولضبط أمورهم الإدارية، إلى أن جاء الوقت المناسب، وبعد فترة من الهدوء، على خط وقف إطلاق النار، لإدخال أول مجموعة إلى منطقة العوجا - أريحا، لتتجه إلى منطقة رام الله، تمهيدا لإرسال مجموعات أخرى لاحقه، لتأسيس قواعد لها هناك، إلا أن أحد أفراد هذه المجموعة الستة، التي عبرت نهر الأردن، ترك المجموعة بحجة إنه يريد الوصول لأقربائه في المنطقة والعودة إليهم، إلا انه لم يعد، وفي اليوم التالي، وفي الصباح الباكر، خرجت طائرة هليكوبتر تنادي بمكبرات الصوت على أفراد الدورية، وتطلب منهم الإستسلام، وعلى اثر ذلك وردت شكاية من العدو من خلال أوساط دبلوماسية «أمريكية»، عندها طلب جلالة الملك من رئيس الحكومة، التوقف عن هذا النشاط حيث تم ذلك، في الفترة منذ أحداث أيلول 1970 ولحين اقتراب موعد اجتماع رؤساء الأركان، ومن بعدهم وزراء الدفاع في الجامعة العربية 1971 كانت المعلومات التي ترد من مختلف الجهات، وخاصة من لبنان بأن هناك نوايا جادة للاعتداء على حياة وصفي، ومع هذا حضر مؤتمر وزراء الدفاع، الذي كان نهاية جهوده الصادقة في العمل للقضية الفلسطينية، عندما وقع الاعتداء عليه في فندق شيراتون، وهو عائد من الاجتماع، وبعد أن ألقى كلمته التي وصفت بأنها الكلمة الصادقة، وأذكر أنني صدفت عمر السقاف وزير خارجية السعودية في الفندق، عندما قال «خسارة هذا الرجل الصادق الذي فقدناه جميعنا».
أذكر بأن محمد داوود مسؤول المليشيات في الأردن عام 1970 في أحد اللقاءات التلفزيونية، قال بأن مقتل وصفي من تخطيط «أبو إياد» صلاح خلف، وبموافقة ياسر عرفات شخصيا، وذكر أحد مسؤولي المنظمة في إحدى المقابلات بأن مقتل وصفي، كان خطأ كبيرا، لأنه كان ينوي تنظيم العمل الفدائي في الأردن، مع المحافظة على أمن البلد، إلا انه لم يوفق في ذلك، وهذا ما يمكنني ذكره عن المرحوم وصفي، وباختصار شديد «رحمه الله».
الجسد في التابوت
نواصل الحديث عن «الأحياء عند ربهم يُرزقون» ونستعرض شهادة إمام الأضرحة الملكية عام 1981 سماحة الشيخ فؤاد العمري، وقد سجلها بالصوت والصورة على اليوتيوب عام 2015 وهي على الرابط التالي (https://www.youtube.com/watch?v=6sHysRhgqsA)
الشيخ العمري الذي شاهد وجه وجسد «وصفي» بعد عشر سنوات من استشهاده، وقد أكد أنهما «وجهه وجسده» بقيا على حالهما منذ استشهاده، وأن التل كان في تابوته وكأنه نائم، حيث قال العمري إن سعدية الجابري، أرملة الشهيد التل، طلبت من المغفور له بإذن الله الملك الحسين، نقل جثمان وصفي من المقابر الملكية، إلى قبره الجديد في منزله بالكمالية، وذلك بناء على رغبة سابقة للشهيد ووصيته أن يتم دفنه في منزله.
وطلب الشيخ العمري باعتباره إمام الأضرحة الملكية، من العمال إخراج جثمان وصفي، ووضعه في تابوت تمهيدا لنقله في اليوم التالي إلى الكمالية من خلال مراسم رسمية.
وفي تلك الليلة فتح الشيخ العمري التابوت حيث شاهد وجه وصفي وجسده، كما هما يوم استشهاده، فلم يتحلل الجسد، مضيفا أن ذلك يعني الشهادة، وتعني الكرامات التي تُمنح للشهداء، حيث تم وضع التابوت الأول في تابوت آخر وتم نقله إلى الكمالية، حيث يرقد الآن في ضريحه الطاهر.
صاحب ولاية
يقول المهندس وهدان عويس، في كتابة «العودة إلى الهداة»، إن نقابة المهندسين الأردنيين، انتدبته مع المهندس نبيه العبوة، لحضور اجتماع في بيروت، تم تخصيصه لوضع النظام الأساسي لإتحاد المهندسين العرب، وظهرت في المؤتمر نقطة خلافية، بين ممثلي نقابة المهندسين في سوريا ونقابة المهندسين في مصر، حول مقر المؤتمر، هل يكون في دمشق أم في القاهرة، وكان رأي الوفد الأردني مؤيدا لمصر، وقد صوت الحاضرون على ذلك بالأكثرية.
وبعد عودة «عويس» و»العبوة»، تم طلبهما لمقابلة مدير المخابرات العامة آنذاك الباشا محمد رسول الكيلاني، في مكتبه بجبل عمان، وقد أبدى إعتراضه على موقفهما، بدعم القاهرة لتكون مقرا للمؤتمر بدلا من دمشق، وقام الكيلاني بإصطحاب المهندسين عويس والعبوة بسيارته، إلى مكتب رئيس الوزراء وصفي التل، وبدأ الكيلاني حديثه بإتهامهما بأنهما من أنصار جمال عبدالناصر، وقال من يريد من الأردنيين أن يتبع عبدالناصر، فليحمل أمتعته ويرحل عن الأردن.. وعندها قال «وصفي» همسا للمهندسين وهدان ونبيه: طولوا بالكو يا إخوان في «حكومتين» في البلد!.. وقال التل للكيلاني: يا باشا هؤلاء شباب مخلصون، وهم في خدمة الأردن دائما، وأنا أعرفهم ، لذا أرجو أن تنسى الموضوع وتطوى القضية، وهكذا ونتيجة لتدخل وصفي التل، لم يقم الكيلاني باعتقال وهدان عويس ونبيه العبوة.
طارق علاء الدين يتابع
ضابط المخابرات الأردنية أنذاك المرحوم طارق علاء الدين الذي كُلف بمتابعة ملف الاغتيال مع الجانب المصري قال ان المصريين أظهروا منذ البداية عدم رغبتهم في التعاون لمعرفة ظروف الاغتيال، أو المساعدة في الكشف عن من يعتقد أنّ له صلة بالحادث، وانتهى الأمر بالأشخاص الذين وردت أسماؤهم في شبكة تقاطعات المشاركة بتنفيذ قرار الاغتيال إلى الاغتيال الغامض في ما بعد.
تحرير «أبو إياد»..!
يروي الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، في كتاب مذكراته «ذاكرة ملك»، الصادر عن الشركة السعودية للأبحاث والنشر، كيف تدخل لطلب الإفراج عن القائد الفلسطيني صلاح خلف «أبو إياد»، وكان هذا الأخير قد اعتقل من طرف السلطات الأردنية في أحداث أيلول الأسود..
«قلت له»: سأوفد إليك مبعوثا..
فسألني: لأي غرض؟
فأجبته: سترى، ولكن أصغ إليه بإمعان.. إنني لا يمكنني أن أطلب من الملك الحسين تبرئة أبو إياد، لقد كان الأمر مستحيلا، كما أنني لم أستعمل مع الملك الحسين حججا سياسية، كما يقول الملك الحسن الثاني في مذكراته.
ولدى استقبال الملك الحسين مبعوث الحسن الثاني، توجه إليه المبعوث بالقول: صاحب الجلالة، إن ملفكم غير قابل بتاتا للطعن، إن لكم الحق في شنق أبو إياد في أية لحظة، بيد أن صاحب الجلالة الحسن الثاني، يعتقد أن عليكم أن تنظروا إلى المشكل من زاوية أخرى، لقد كان جدّكم وجد جلالته رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة في الصفح، وهذه المبادرة تنم عن سماحة أصيلة وفرصة سانحة لتؤكدوا أنكم من سلالة رسول الله.. وهكذا أفرج عنه الملك الحسين.
سبق صحفي
الصحفي العراقي محسن حسين يقول: عملت في مطلع السبعينيات مراسلا صحفيا في مصر، وسمعت كيف أن مراسل «رويترز» سبق عشرات المراسلين، بنشر خبر مقتل رئيس الوزراء الأردني آنذاك الشهيد وصفي التل، في مدخل فندق شيراتون القاهرة، حيث كان المراسل قد اتفق مسبقا مع موظفي استعلامات فنادق الدرجة الأولى، لتزويده بأخبار الشخصيات التي تنزل في تلك الفنادق، مقابل (5) جنيهات للخبر الواحد، وهكذا عندما شاهد موظف استعلامات الشيراتون، إطلاق الرصاص على وصفي التل، أسرع بالإتصال بالمراسل، ليخبره بما حدث، وليسجل أضخم وأسرع سبق صحفي، إذ نشرته «رويترز» بعد أقل من (5) دقائق.
كلام خطير
الأستاذ راكان المجالي قال: وبقي أن أقول، كشهادة، إنّني سمعت من وصفي، مراراً، بعد تشكيله حكومته الأخيرة ما مفاده؛ أّنّه لم يكن يريد للأحداث أن تصل إلى ما وصلت إليه، ولا أن يكون عنواناً لإنقسام داخليّ، غير أنّه وجد نفسه، مرغماً، في وسط محنة موضوعيّة شديدة التعقيد، وللإنصاف، فإنّ وصفي لم يكن مرتاحاً لتهييج الهويّتين الأردنيّة والفلسطينيّة، وصدامهما، ويعرف جيّداً مدى خطورة ذلك ونتائجه الخطيرة في انقسام الضمير الوطنيّ لأبناء الشعب الواحد، أما الاغتيال، فقد ظلّ هاجساً عند وصفي، وما كتبه زميلنا إبراهيم سلامة، في كتابه غداً ندخل المدينة، على لسان وصفي، خير دليل على ذلك، وقد جاء فيه ما نصّه:.. حتّى وجّه الكلام لي قائلاً: هل كتبتَ رسالتك الصحفيّة؟.. قلت: نعم.. وأرسلتها صباح اليوم بالهاتف.. تابع: أنا إستبقيتك بقصد نشر هذا الخبر.. قلت: تفضّل. قال: «إنّ المخابرات المركزيّة الأمريكيّة تخطّط لاغتيالي».. أما عملية إغتياله، فلم تكن على يد المجموعة، التي أطلقت النار عليه، ولكنّها كانت برصاصة جاءت من الأعلى، عبر قنّاص ماهر، دخلت من أعلى الكتف إلى القلب، وهو ما حدّثني به الصديق سامي قموه، الذي حضر مندوباً عن السفارة الأردنية في القاهرة، يومها تشريح جثّة وصفي، وهو كلامٌ مطابق لما كتبه إبراهيم سلامة، نقلاً عن قرار الحكم النهائي في قضيّة اغتيال وصفي التل، الذي صدر في القاهرة، بتاريخ 7 كانون الثاني/ يناير عام 1976، ونشرته الأهرام وروز اليوسف، والمكوّن من 40 صفحة.
والشاهد عليّ الله
الحكاية من وسط البلد.. وهي جزء من حكايات شرف ورجولة ممزوجة بالإيمان والتحدي.. والحكاية هنا من صالون الكردي بالأزقة العمانية المقابلة لمطعم هاشم بوسط البلد، وكان مالك هذا الصالون المرحوم مروان الكردي، وهو أحد حلاقي وصفي التل، وقال الكردي قبل وفاته لكاتب هذه السطور: في بداية شهر تشرين الثاني من العام 1971 وكانت عمان حينها تشهد أجواء ماطرة، والأوضاع الأمنية متوترة جدا، وبينما كان الغروب يحل على العاصمة، وأنا أجلس وحدي في الصالون، وإذ برئيس الحكومة آنذاك وصفي التل، يدخل إلى الصالون كعادته.. دون حرس ولا مرافقين.. وقد كان يرفض أن يأتيه الحلاق إلى عمله أو منزله، بل يُصر أن يذهب هو بنفسه إلى وسط البلد، ربما لملامسة نبض البسطاء بنفسه، ويتلمس مطالب الناس وهمومهم وآمالهم!..
يضيف الكردي: المهم جلس «وصفي» على كرسي الحلاقة، وبدأتُ بقص شعر رأسه بالطريقة التي يختارها التل بنفسه، وهي أقرب ما تكون إلى الحلاقة العسكرية، وكانت تسمى «حلاقة إنجليزية»، وخلال إنهماكي بعملية قص شعر رأسه، قمتُ بإسداء النصيحة إليه، بضرورة أخذ الإحتياطات الإحترازية اللازمة، باصطحاب حرسه معه في جولاته، خاصة في ظل تداعيات الأحداث المؤسفة في عمان بذلك الوقت.. عندها جاء صوت وصفي التل صارما وقال لي: أنت شو بتشتغل!.. فقلت له: حلاق!..فرد بحدة: احلق واسكت!.. ثم أردف مؤمنا، واثقا، غاضبا وهو يوجه سؤاله لي: بعدين يا أخي..هل أنت مسلم؟!.. فقمت بترديد الشهادتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.. وعلى الفور قام وصفي بتلاوة الآية القرآنية الكريمة: «فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون»!.. عندها..أسرج وصفي خيله للشهادة، التي تنبأ بها مسبقا، عندما قال لرفاق الدرب: أما أنا فتأتيني رصاصة.. وأموت واقفا.. وبالفعل بعد عدة أيام وتحديدا يوم 28 تشرين الثاني عام 1971 استُشهد وصفي..!
ماذا قال عبدالهادي باشا؟
مدير الأمن العام الأسبق المرحوم الفريق أول المهندس عبدالهادي المجالي قال: أنا إذْ عرفت الشهيد وصفي التل، بحكم علاقته بشقيقي د. عبد السلام المجالي والمرحوم عبدالوهاب، فإن لي تجربة شخصية معه، عندما كنت قائدا لسلاح الهندسة، حينها استدعاني إلى اجتماع حكومي، وطلب مني أن أنشئ سوقا في العقبة، فسألني: كم من الوقت تحتاج لبناء السوق؟.. فأجبت: ثلاثة أشهر، فنظر إلى أحد وزراء حكومته، وقال: ألم تقل إنك تحتاج إلى سنة ونصف السنة، فعاد بنظره وطلب مني أن نبدأ فورا في العمل، فنفذنا المشروع وعدة مشاريع أخرى، وقد كان الشهيد التل يثق تماما، بقدرات أبناء القوات المسلحة، على تنفيذ المشاريع بكافة المحافظات، لإيمانه دوما بأنهم على قدر المسؤولية الوطنية.
شاعر يهجو الرئيس؟
القصة الأخرى تشير إلى أن الشاعر إبراهيم المبيضين، كان يعمل مسؤلا في وزارة الداخلية وقد كان وصفي التل يعرفه تماما برقي أشعاره ونزاهته وأمانته، إلا أنه وفي حكومة وصفي التي عُرفت بحكومة «الثورة البيضاء» التي تولت تطهير مفاصل الدولة من الفاسدين، وقد تم مصادفة إحالة الشاعر المبيضين إلى التقاعد في وسط هذه الميمعة، فما كان من الشاعر المبيضين إلا أن عبر عن غضبه على إحالته للتقاعد حيث سيعتقد الناس، أنه جزء من الذين تم تطهير الدولة منهم، فقام بهجاء قوي جدا ولاذع لوصفي التل، بقصيدة ساخنة انتشرت بقوة حينها، وما أن علم وصفي بذلك، حتى قام باستدعاء الشاعر المبيضين على الفور، مستفسرا عن سبب غضبه وهجومه؟.. فقال له الشاعر المبيضين: لويش قاعدتني في هذه الظروف؟.. فرد وصفي: والله لو واحد روحني من شغلي لألعن أبوه مش بس أهاجمه بقصيدة!.. لكن والله ما معي خبر عن إحالتك.. عموما سأبقي راتبك التقاعدي من الداخلية مستمرا، وراح أعينك في الإذاعة براتب آخر..
ويذكر أن الشاعر المبيضين صاحب أجمل القصائد الوطنية المُغناه وأبرزها رائعة: بيرق الوطن رفرف.. فوق رؤوس النشامى..
وصفي وعبده موسى
ونُقل عن المؤرخ المعروف سليمان الموسى، أن الشهيد وصفي التل أنه قال ذات مرة: إن عبده موسى أهم عندي من «فرانك سيناترا» المغني الأمريكي الشهير «آنذاك» فعبده موسى يغني للوطن، ويتجاوب مع إحساس المواطن، وفي نهاية المطاف يؤدي فنه إلى التقريب بين المواطن وبلده وأهل بلده.. وهذا بالضبط هو سر نجاح الاغنية الأردنية، التي كان عبده موسى رائدها الأول، فهذه الأغنية لامست ضمير المواطن ووجدانه ونطقت بلسانه وهمومه وآماله، وربطت بينه وبين منجزات بلده، ونجحت في ترجمة المكان لحنًا مبدعًا وكلمات مرهفة ومشاعر متدفقة.