الغد
أخطر ما يتعرض له المشرق العربي محاولات تفتيت وحدته الداخلية، وتشظية هذه الوحدة من خلال إثارة الكراهية والنعرات على أساس ديني أو مذهبي أو طائفي، وهذه المحاولات أخطر على شعوب الشرق من الاحتلالات بكل الأحوال.
المشرق العربي يتميز بالتنوع، وهذا هو سر قوة شعوب الهلال الخصيب التي حملت إرثا حضاريا ممتدا لآلاف السنين في العراق وبلاد الشام، والذي يستعرض تكوينات المنطقة يكتشف أنها منوعة ومتعايشة، وهذا التنوع طبيعي بل لعله سبب قوة دول عظمى في العالم قامت على التنوع، وتوظيف القدرات والإيجابيات من أجل بناء دول حديثة تقوم على المواطنة أولا، والإيمان بهوية البلد، ومشروعه.
في بلاد الشام مكونات عدة تشكل هوية هذه المنطقة، لكننا نشهد منذ سنوات إثارة للكراهية والنعرات والفتن بين أبناء المنطقة، وإشعالا للحروب، والشكوك على خلفيات مختلفة، وهذا أخطر ما تتعرض له المنطقة، تحت وطأة التغذية ومحاولات بث الفرقة والاحتراب، كما أن الوقوع أحيانا في فخ التعميم عند تقييم أي لحظة يمثل مدخلا لترسيمات داخلية تهدد وحدة أي شعب، أو أي بلد في منطقتنا.
ومن الأمثلة المشرقة والإيجابية يأتي الدروز الموحدون الذين يعدون من أبرز تكوينات منطقتا ولهم تاريخ في الوقوف ضد الاحتلالات، وفي الواحد والعشرين من الشهر الحالي تمر الذكرى المئوية الأولى لثورة سلطان باشا الأطرش، وتاريخه وتاريخ الدروز ضد الاحتلال الفرنسي، وما شهدناه لاحقا من مشاركة للدروز في مقاومة لبنان ضد الاحتلال الإسرائيلي، وما مثلته تيارات درزية في فلسطين من وقوف ضد إسرائيل في فترات مختلفة، ويكفي ما شهدناه خلال الحرب الأخيرة على لبنان من لجوء أغلب أهل جنوب لبنان إلى مناطق الجبل في لبنان حيث الدروز الذين وفروا لهم الحماية حتى انتهت الحرب، وما يمكن قوله أيضا من مواقف وطنية داخل سورية تعزز وحدة سورية، وتقف ضد التقسيم، وضد أي اتجاهات مرفوضة، وهذا نموذج حي لقدرة مكون طبيعي في المنطقة على تقديم نموذج وطني يفرض علينا الوقوف عند دلالته.
وفي الأردن يمثل الدروز الموحدون نموذجا فريدا إذ إن أول رئيس وزراء للأردن كان رشيد طليع وهو من الدروز الموحدين واختير لخبرته وكفاءته الكبيرة، وتبوأت أسماء مهمة منهم مواقع ثانية مهمة عند تأسيس الدولة، بما يلتقي مع عيش الدروز الموحدين في الأردن وتقديمهم لنموذج اجتماعي نبيل في العمل والإخلاص، واحترام الدولة منذ عهد الملك المؤسس، ووجودهم في كل المواقع التي خدموا فيها بإخلاص، وكونهم عشيرة أردنية لها مكانتها، وتتجسد فيها قيم الشهامة والأصالة والتسامح مثل كل العشائر الأردنية، وكان لموقفهم في حرب غزة، دلالة فريدة قدرها عاليا المجتمع الأردني من كل أطيافه، وسيبقى محلا للتقدير، كما يعد الدروز الموحدون من العشائر التي ينظر إليها باحترام لدورها الخيري والإنساني، من جهة، ولدورها الاجتماعي في حل كثير من الخلافات، وتعزيز السلم المجتمعي في الأردن على مستوى العلاقات الاجتماعية.
منطقتنا تقوم على التنوع الغني، وهذا التنوع يمنح شعوب المنطقة قوة إضافية، ويعبر أيضا عن قدرتنا جميعا على الشراكة الوطنية، والانسجام تحت هوية وطنية، وواجبنا دوما أن نعظّم الإيجابيات ونحافظ على بعضنا البعض، ولا تستدرجنا السلبيات تحت وطأة الانفعال، أو الشك، بما يستجيب أصلا مع مخططات تريد تفتيت هذه المنطقة.