عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-Oct-2020

النهضة وميراث الأنوار والتنوير*جمال الطاهات

 الدستور

عصر «الأنوار» في أوروبا، الذي بدأ في مطلع القرن الرابع عشر، ترجم العرب (فكرته) بشكل ناقص. إذ أن كلمة (Renaissance)، تعني إعادة الولادة، وهي تتضمن العودة للتراث الإغريقي والروماني، كوسيلة للخروج من العصور (التي أصبح اسمها الوسطى)، والتي تميزت بهيمنة الكهنوت الكنسي على أوروبا، بعد الحروب الصليبية. لقد أخذ هذا العصر اسمه، في القرن التاسع عشر، بعد أن انقضى، وورثته الثورة العظمى الثانية في تاريخ الفكر الإنساني، في القرن السابع عشر. فهو إسم اطلقته أوروبا (المستنيرة) على بعض تاريخها، بشكل لاحق عليه، وليس بشكل مسبق. فأهم ميزة لعصر التنوير، انه كان تعبيراً عن وعي الذات لحاضرها، كشرط لوعي ميراثها وتجاوزهما.
 
إذ أن القرن السابع عشر، نقل منظور «الانوار» من إعادة الميلاد، إلى بلورة إرادة تسعى لتوليد المستقبل بمقاسات الحلم والطموح، محمولة على فكرة التنوير، التي تحرر وعي الفرد بالحياة، وتضعه في مركز حركة الفكر الإنساني. وانتقلت اليوتوبيا من الحنين لاستعادة ماضي متخيل، إلى السعي الحثيث لتأسيس مستقبل بمواصفات محددة. ما ميز عصر التنوير، هو الحوار حول مواصفات المستقبل، والسعي لتحقيق مبادئ سامية، وقيم عليا إنسانية مشتركة، تصوغ وحدة الأفراد الأحرار في «المجتمع». فالمنظومات الاجتماعية، قيم ومبادئ تتجلى في قواعد عمل وسلوك، وليست مجموع جبري لأفرادها.
 
فكرة النهضة وعصرها في العالم العربي، ارتبكت، حيث بدى أن المطلوب هو التحرر من الراهن، فتم البدء بمقارعة هذا الراهن، ولكن دون جهد لرسم ملامح المستقبل الذي سيليه. واستحقت النهضة صورتها، بأنها قفزة من واقع يمثل امتداداً لماضي مظلم، نحو مستقبل غامض، اكتسبت ملامحه سوادها وظلمتها من، رسمها بلون أسود يكتفي بطمس وتغييب ملامح الحاضر المزري.
 
وتحولت فكرة النهضة، من مشروع تنويري، يرسم ملامح المستقبل بيوتوبيا مبنية على القيم الإنسانية العليا المشتركة، إلى مجرد حركة مرتبكة وسريعة لمغادرة مظاهر التخلف والضعف. وغاص الحوار بمساومات حول ما يمكن تغييره، وسرعة التغيير ووسائله ومركباته. وغاب السؤال عن المراسي التي سنصل إليها، بعد مغادرة الحاضر الذي يرزخ تحت وطأة الماضي.
 
فبعد غزو نابليون للمنطقة، متسلحاً بالمدافع والمطابع، نشأت استجابة سريعة لفكرة النهضة. فبدأت ببعثة علمية إلى باريس، وانتهت بسلسلة من الهزائم العسكرية، وانطلاق حوارات تجنبت توضيح أسئلة المستقبل، هروباً من استحقاقات الإجابة عليها. وغاب حوار الخيارات، واستبدلت بالسجالات الإنشائية حول المواقف، لتعزيز الوهم بأننا شركاء في توليد حاضر تنتجه ديناميكيات تسحب الجميع معها، دون وعيهم. حيث انحصرت الحوارات، بين تأييد ما يجري ورفضه. مما منح المستشرق «برنارد لويس» فرصة للقول: بأن المعركة بين اسطول نابليون والاسطول البريطاني، قباله سواحل الاسكندرية، نقلت مركز القرار حول مستقبل المنطقة إلى خارجها. وبعبارة أدق، تم استثناء المنطقة من الحوار حول مستقبلها، حيث يخفق مفكروها وسياسيوها في رسم ملامحه، وتحديد بعض المسارات المفضية إليه، ويكتفون بتأييد ورفض ما يجري لهم.
 
مفهوم النهضة، وهو المتمثل بالدعوة للتخلص من الضعف، والعزم لمغادرة الواقع، يبقى ناقصاً إن لم يدعم بالاجابة على سؤالين: الأول تحديد ملامح المستقبل وعناوينه، والثاني تحديد المسارات والمراكب التي ستأخذنا إليه.
 
إن اختزال النهضة بمهمة مغادرة الواقع، دون هدف أو وجهة محددة وعنوان واضح نذهب إليه، حركة عصابية تؤدي لإيذاء الذات، أو التدمير الذاتي. أوروبا حين غادرت واقعها المزري «العصور الوسطى»، كانت محمولة على دعوتين: إنسانية اشتقت مثالها من ماضٍ جميل مُتخيل، تلتها حركة تنويرية تسعى لفتح المسارات نحو مستقبل، رُسمت معالمه وملامحه، بألوان «أحلام الأنوار» المُبهجة.