عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Sep-2025

الإصلاح المغشوش (3): من فقه إسقاط الأنظمة إلى فقه التعامل مع الواقع*د. محمد العايدي

 الغد

إن الإصلاح الديني في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يتطلب منا فقهاً متجاوزاً للفهم التقليدي للواقع، من غير أن نلغي التراث، بل يستمد منه لتشكيل المفاهيم الجديدة، حيث باتت الدولة الوطنية إطاراً لا يمكن تجاوزه في المفاهيم السياسية، والعولمة تفرض ترابط الأسواق وتداخل المصالح، والتكنولوجيا تشكل أنماطاً جديدة للعلاقات المجتمعية بين الناس، فلا بد من استحضار الواقع الجديد بكل أبعاده، لكي لا نجعل من الدين عائقاً أمام مسيرة الإصلاح، أو غطاء لتبرير الجمود، بل يجب أن يتحول إلى قوة إصلاحية تقدم حلولاً عملية للمشكلات، وتفتح آفاق التنمية في شتى المجالات، وهناك تجارب لنماذج ناضجة في بعض الدول يمكن أن يستعان بها للوصول إلى دور أكبر للإصلاح الديني في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. 
 
 
ففي المجال السياسي مثلاً، لم يعد يكتفى بالمناداة « بالخلافة الراشدة» كصيغة مثالية للحكم، بل علينا أن نقدم آليات عملية لضبط الشفافية مهما كان شكل الحكم، وإقرار مبدأ المحاسبة والتداول السلمي للسلطة، وهذه المبادئ تتسق مع جوهر الدين، وإن اختلفت صورتها عن الماضي، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يفرض شكلاً جامداً للحكم كتطبيق عملي، بل ترك لنا مقاصد كبرى قابلة للتمثيل بوسائل متغيرة.
وفي المجال الاقتصادي لا يكفي رفع شعار «الزكاة» أو «الوقف» كحل شامل للفقر، بل المطلوب إعادة هندسة النظام المالي بما يضمن دور»الزكاة» و»الوقف» في تمويل مشاريع التنمية لا مجرد توزيع الصدقات، فالمؤسسات المالية الحكومية والأهلية كالبنوك وغيرها، يمكن أن تشكل رافعة اقتصادية، بعمل برامج استثمارية مشتركة منتجة ومستدامة تتوافق مع مقاصد الشريعة في حفظ المال، من خلال تنميته واستثماره.
وفي المجال الاجتماعي فإن الإصلاح الديني لا ينبغي أن يقف عند حدود المواعظ، بل عليه أن يوجه قضايا الأسرة والتعليم بأدوات واقعية، ففقه الأسرة مثلاً يجب أن يتجاوز مجرد الدعوة إلى «الطاعة» أو «القوامة»، ليؤسس لخطاب يوازن بين الحقوق والواجبات، في ظل واقع معقد تتغير فيه أدوار الرجل والمرأة، وفي المجال الثقافي لا بد من دمج القيم الروحية مع التعليم الفني والثقافي، وتقديم برامج تحمي الهوية الدينية من الانغلاق، هنا يمكن للخطاب الديني أن يقدم تصورات عملية حول دعم سياسات إصلاح في المجالين الاجتماعي والثقافي.
ولعل من أكبر أوهام الإصلاح هو الذي تظنه بعض التيارات الدينية مرهوناً بإسقاط الأنظمة السياسية، وإشعال الثورات الداخلية، هذه النظرة جعلت من الإصلاح عند كثيرين مرادفاً للهدم والفوضى، لكن الإصلاح الحقيقي هو أن تنتقل من فقه إسقاط الأنظمة إلى فقه التعامل مع الواقع، ولا نقصد الاستسلام للواقع الفاسد، بل محاولة تغييره بالتدريج، فالدين لا يمنحنا وصفة جاهزة للتغيير، بل يمدنا بمنظومة مبادئ وقيم، ترشدنا كيف نصلح الحياة مهما كانت الظروف القائمة.
ولهذا فالإصلاح الديني في زماننا لا بد أن يكون إصلاحاً مؤسسياً لا فردياً تشارك فيه العقول النيرة والجهات المختلفة، ويستند إلى رؤية شاملة تستحضر التحديات المحلية والعالمية، فالعالم بات منظومة متشابكة، ولم يعد الإصلاح شأناً محلياً معزولاً، بل لا بد أن يتجاوز حدود المنطق الوعظي إلى بناء مؤسسات معرفية وفكرية، تقدم خطاباً قادراً على معالجة قضايا: الفقر، والبطالة، والتطور التكنولوجي، والعدالة الاجتماعية، في ضوء المقاصد الكلية للشريعة، وفهم العلوم الحديثة، ومن ثم صياغة خطاب ديني متجدد.
فالمؤسسات الدينية مطالبة اليوم أن تغير من نظرتها للإصلاح، فهو ليس مجرد تدوير للتراث، بل هو وعي بالتحول التاريخي الذي يفرض الانتقال من «الفقه التراكمي» إلى فقه الحركة والتجدد، حتى لا نبقى في متاهة لا تنتهي، ويظل الخطاب يكرر ذاته بطريقة تمجه الجماهير، ويقيم الحواجز بين الدين والحياة، فالإصلاح الفعلي يتجاوز منطق الحراسة الشكلية للتراث إلى منطق المشاركة الفاعلة، بحيث يصبح الدين قوة دفع نحو التنمية المستدامة والانفتاح، ونحو التعددية التي تحمي التنوع.
ختاماً... تظهر عظمة الدين من خلال مرونته الكبيرة وقدرته على التكيف مع الواقع مع الحفاظ على الثوابت، وبإيجاده حلولاً عملية للإصلاح في شتى أنواع الحياة، والمساهمات الفاعلة في التنمية في أبعادها المتعددة، فالدين لم ينزل ليطبق في واقع مثالي، بل جاء من أجل صناعة واقع يصلح حياة الناس ومعاشهم مهما كانت الظروف.