عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Sep-2023

التوظيف السياسي للمحرقة اليهودية "الهولوكوست"

 الغد-د. أمين محمود

 
إن المتتبع لمسار الحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين، لا بد وأن يتساءل عن السر في تقبل الدول الغربية لهذا المشروع، وإبداء استعدادها الكامل لتقديم كل ما يحتاج تنفيذه من مساعدة ودعم، سواء كان ذلك بالمال أو بالسلاح أو حتى بالمتطوعين، في حين أن هذه الدول لم تبد أي اهتمام أو اكتراث بمصير الشعب الفلسطيني صاحب الأرض وساكنها الأصلي.  
 
 
لقد استغل الصهاينة اليهود الأجواء الدينية السائدة آنذاك في الغرب، وبخاصة الذرائع الغيبية اللاهوتية المتداولة حول الصلة التاريخية بين يهود العالم و"أرض الميعاد"، وقاموا باستخدام جميع الوسائل لنشر هذه الذرائع من أجل كسب تأييد أكبر قطاع من شعوب العالم لدعم الأهداف التي كانوا يسعون لتحقيقها، والتي نجحوا في تحويلها من مجرد ذرائع وأساطير لاهوتية الى ممارسات سياسية يستعينون بها لتنفيذ مشروعهم الاستيطاني وحلمهم الاستعماري الرامي إلى توطين اليهود في فلسطين، وإحلالهم محل سكانها الأصليين العرب.
وكما وجد الصهاينة في ظاهرة العداء للسامية تربة خصبة ووسيلة مناسبة لاستغلاتها من أجل تحريك الجماهير اليهودية ودفعها نحو الهجرة إلى فلسطين، نجدهم ينجحون أيضا باستغلال قضية المحرقة (الهولوكوست) التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية على يد النازيين، والتي عملوا على تحويلها الى خطاب شعبي يبررون به للعالم حقهم المزعوم في إخراج دولة يهودية إلى حيز الوجود. 
وأخذ الصهاينة، في خطابهم التبريري لإنشاء الدولة، يصرون على ربط الإقرار بالمحرقة وضحاياها، بالإقرار بحق اليهود بإنشاء دولة لهم؛ لدرجة أن أصبح الربط بين المحرقة والدولة أمرا مقدسا لديهم كما ورد في إعلان الدولة، حيث جاء فيه: "... أثبتت المحرقة التي ارتكبت بحق الشعب اليهودي ضرورة إيجاد حل لمشكلة هذا الشعب الذي يفتقر إلى الوطن، وهذا الحل هو إقامة دولة له تفتح أبوابها على مصراعيها لكل يهودي قادم من أي بقعة في الأرض..." . 
كما أخذ الصهاينة في تضخيم تبعات المحرقة، وتكريس صورة الشعب الضحية، بغية استغلالها من أجل الترويج للسياسة الهادفة إلى استقطاب وبلورة حشد عالمي يتضامن ويساند مساعيهم نحو إقامة دولة لهم تشكل – حسب ادعاءاتهم- درعا واقيا يدرأ عنهم مخاطر تكرار الاضطهاد والمعاناة التي واجهوها على يد النازيين، إضافة إلى أنها تحقق لهم الطموحات التوسعية التي يسعون لتنفيذها بكل الطرق الممكنة، وبأي شكل من الأشكال، ومهما كان الثمن حتى ولو كان ذلك سببا في معاناة شعب آخر.
وهذا ما أكده نتنياهو في منطقه الأعوج حينما قال: "إن المحرقة وقعت عندما كانت دولة إسرائيل غير موجودة، و لو كانت الدولة قد نشأت قبل المحرقة لكان الأمر سيحول دون وقوعها. إن اليهود يعجزون عن حماية أنفسهم دون أن تكون لهم دولة خاصة بهم...". 
وهكذا؛ فإن "المأساة اليهودية" التي تسببت بها المحرقة، كانت لها مساهمتها الفعالة في استقطاب الدعم والتعاطف العالمي مع إقامة دولة يهودية أتقنت القيام بدور الدولة الضحية التي تدافع عن نفسها ضد "الذئاب المسعورة المحيطة بها من كل الجوانب". 
واتخذ الصهاينة من دور الدولة الضحية هذا قناعا يتسترون خلفه للتبرير للعالم بضرورة وشرعية احتلالهم فلسطين مهما كان الثمن، حتى لو اضطروا إلى تشريد سكانها، وذلك لكونها أرض الميعاد التي ينص معتقدهم على أن الإله وهبهم إياها. 
وقد نشط الصهاينة، وبشكل مبالغ فيه، في الترويج لادعاءاتهم المأساوية، من أجل التغطية على كل ما اقترفوه من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، وخير مثال على ذلك ما قاله الكاتب الصهيوني أيزك دويتشر في معرض دفاعه عن جرائم الصهاينة تجاه الفلسطينيين: "إن شعبا مطاردا من قبل غول، وشعبا هاربا لإنقاذ حياته، لا يستطيع أن يتجنب جرح من هم في طريقه ودوس ممتلكاتهم".
فالمحرقة، بلا شك، جريمة أوروبية راح ضحيتها الملايين من اليهود، وغالبيتهم لم يكونوا صهاينة وربما لم يسمعوا بالصهيونية، وسيقوا على يد الجلادين النازيين، في ظل صمت مطبق من جيرانهم الأوروبيين، ورد فعل هامشي اّنذاك من صهاينة أوروبا أنفسهم، حيث لم يقوموا بأي نشاط جاد لمكافحة هذه الجريمة إبان حدوثها، ولذا فإنه من غير المنطقي أن تعزى هذه الجريمة الأوروبية إلى الفلسطينيين كي يتحملوا وزرها ويدفعوا ثمنها طالما أنهم لم يقوموا أو يشاركوا بها لا من قريب ولا من بعيد. 
والأنكى من ذلك، أن أجهزة الإعلام الغربية والصهيونية، أخذت تكيل التهم للفلسطينيين، وتصر على أن مجرد لجوءهم للدفاع عن وجودهم ضد الاحتلال يعتبر عملا إجراميا يضاهي جرائم القوى اليمينية الأوروبية المعادية للسامية، بما فيها النازية الهتلرية ذاتها.
ومما تجدر الإشارة إليه، في هذا الصدد، أن الحركة الصهيونية كانت تستهدف فلسطين لتصبح دولة يهودية قبل حدوث المحرقة بعشرات السنين، وجاء استخدام المحرقة ضمن الإستراتيجية الإسرائيلية لترسيخ عقدة الذنب في ضمير العالم الغربي خاصة، بحجة تقاعسه عن مد يد العون لليهود لإنقاذهم من اضطهاد النازيين. 
وقد سعى واضعو هذه الإستراتيجية، إلى إقناع العالم بأن الطريقة العملية والوحيدة لتحرير ضمير شعوبه من عقدة الذنب تجاه اليهود، هي الاعتراف بأحقيتهم بإيجاد كيان مستقل لهم يلبي طموحاتهم، ويوفر لهم الحماية من التعرض لمزيد من المعاناة كتلك التي تعرضوا لها على يد النازيين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ضرورة الاعتراف بالمحرقة وبدورها الرئيسي في محاولات صوغ هوية يهودية شاملة لجميع يهود العالم، سواء كانوا في إسرائيل أو خارجها.  
كما أن تحرير الضمير العالمي لن يكتمل – في نظر واضعي هذه الإستراتيجية – ما لم تستمر دوله، والدول الغربية منها بالذات، في تقديم كل أشكال الدعم للدولة اليهودية، سواء كان ذلك دعما ماليا أو دعما عسكريا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الدولة اليهودية أصبحت تستخدم المحرقة كوسيلة ابتزاز للعديد من دول العالم.
وما يثير الانتباه أن إسرائيل اتبعت من ناحيتها سياسة أطلقت عليها سياسة "تسامح" في تعاملها مع القوى اليمينية الأوروبية التي سبق وتبنت مواقف عنصرية ومعادية لليهود، مانحة إياها صك غفران طالما أن هذه القوى تدعم إسرائيل في المحافل الدولية، وتوفر لها سوقا رائجة لمنتجاتها، ولا سيما ما يتعلق منها بالسلاح المتطور.
وفي المقابل اتبعت سياسة تقوم على دمغ ووصم القوى اليسارية التي تتعاطف وتؤيد حقوق الشعب الفلسطيني بأنها قوى معادية للسامية، وتتبنى سياسات تنمي الكراهية العنصرية ضد الشعب اليهودي.
وقد لخص رائف زريق هذه المواقف الإسرائيلية المشوهة لذكرى المحرقة بقوله: " ... هذا يثبت أن ما يهم إسرائيل أولا وأخيرا هو أن تحظى بدعم دولي لمشاريعها الاستعمارية الاستيطانية قبل كل شيء، وليس بالضرورة الدفاع عن ضحايا اللاسامية من قبل اليمين العنصري الفاشي الجديد في أميركا وأوروبا، ولا حتى الدفاع عن ذكرى ضحايا المحرقة".
ومن الغرابة بمكان، أن موضوع المحرقة بقي طي النسيان ولم يصبح متداولا إلا في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ولم يفطن إليه الإسرائيليون إلا بعد أن أعادت المنظمات ووسائل الإعلام الصهيونية في أميركا إحياءه، وحولته إلى خطاب شعبي صادم تبناه العديد من المفكرين الغربيين، وباشر الإسرائيليون بعدها في استغلاله ذريعة إضافية لتبرير جرائمهم واعتداءاتهم الوحشية المتكررة على الفلسطينيين.
ولم تتوقف الأجهزة الإعلامية الصهيونية المنتشرة في مختلف دول العالم الغربي عن كيل أبشع أنواع التهم للفلسطينيين، مصنفة مقاومتهم الشرعية للاحتلال بأنها أعمال إرهابية، لدرجة أن بن غوريون أعرب خلال اللقاء الذي جمعه بمجموعة من الناجين من المحرقة عن عدائه الشديد للفلسطينيين بقوله: "... لا نريد أن تتكرر مأساتكم ونقع تحت رحمة الإرهابيين النازيين العرب فيبطشون بنا ويقضون علينا".
غير أن التوظيف الصهيوني للمحرقة لم يقتصر على الفلسطينيين دون غيرهم، بل امتد حاليا ليشمل كل من ينتقد سياسة إسرائيل العدوانية، باتهامه بمعاداة السامية وإنكار المحرقة. 
وقد نجح اللوبي الصهيوني في أميركا والعديد من الدول الأوروبية بتجريم كل من يقارن بين جرائم النازيين وبين السياسة الإجرامية التي ينتهجها الإسرائيليون ضد الفلسطسنيين؛ لدرجة أن هذا التجريم امتد ليشمل حتى اليهود أنفسهم خارج الكيان الصهيوني، فيتم ابتزازهم وممارسة الإرهاب الفكري عليهم. 
وشاءت الصدف أن يتورط نتنياهو نفسه في المس بـ"قدسية" المحرقة عندما زعم في خطابه أمام الكونجرس الصهيوني العالمي في القدس عام 2015 أن مفتي فلسطين الأسبق الحاج أمين الحسيني هو الذي أقنع هتلر بحرق اليهود؛ لأنه لم تكن لديه نية بحرقهم، وكان يريد فقط إخراجهم من بلاده.
إن هذا التخريف الذي نطق به نتنياهو ليس له أي علاقة بالتاريخ الفعلي، وإنما له كل العلاقة بهلوسته السياسية، مستغلا ضحايا المحرقة اليهود لتبرير الجرائم الوحشية التي تقوم بها العصابات الصهيونية في الضفة الغربية وغزة. 
والغريب أن ما قام به نتنياهو من تشويه لذكرى المحرقة، وووجه بردود باهتة سواء في أوروبا أو أميركا، ما عدا بعض التعليقات في عدد محدود من الصحف ووسائل الإعلام الغربية؛ لدرجة أن رد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل جاء باستحياء شديد يشير فقط إلى أن "ألمانيا لا يوجد لديها سبب يدعوها لتغيير رأيها التاريخي بأنها المسؤولة عن تلك المحرقة المعروفة بالهولوكوست". 
ترى لو تجرأ زعيم عربي وأبدى ملاحظة فسرت بأنها مساس بذكرى المحرقة، ماذا سيكون عليه رد الفعل الغربي المتصهين؟ ستثور دنياه ولا تهدأ. هذا هو ما نعنيه بمقولة الكيل بمكيالين.